د.عبد الرحيم بوعيدة – رئيس جهة كلميم وادنون
أستاذ القانون الخاص بجامعة القاضي عياض
أستاذ القانون الخاص بجامعة القاضي عياض
فجبهة البوليساريو التي كانت في ثمانينيات القرن الماضي سببا لانسحاب المغرب من المنظمة الإفريقية لازالت عضوا رئيسيا في الإتحاد الإفريقي، فما الذي تغير حتى تكون العودة في هذا التوقيت بالضبط ؟
لعل القراءات التي ستصاحب هذا الحدث سوف تنصب لا محالة في استلهام نفس القاموس السياسي الذي يختزل لغة واحدة تواكب دائما الأحداث السياسية الكبرى التي يعرفها المغرب ، والحقيقة أن هذه المبادرة الملكية التي أعادت الوطن إلى حضنه الإفريقي ، تحتاج إلى فهم أبعادها و دلالاتها البعيدة المدى من خلال قراءة نقدية تساعد الفاعل السياسي في بلورة الإستراتيجية المستقبلية، وتحصن القرار السياسي للدولة المغربية من خلال لغة جديدة تبتعد عن قاموس الرياضة الذي يتحدث عن المنتصر والمنهزم، وكأن الأمر يتعلق بمباراة انتهت لصالحنا ، في حين أن المسألة تتعلق بإستراتيجية ملك بدأ عمله الدبلوماسي منذ مدة طويلة ليعيد للمغرب إشعاعه القاري ومكانته الريادية في قارة طالما تعاملنا معها مكرهين بقوة الجغرافيا لا بعمق التاريخ وأبعاده.
لغة الانتصار أو الانهزام لن تسعفنا طويلا في فهم هذه العودة لأن جبهة البوليساريو نفسها تتحدث نفس اللغة ، بل تعلن أكثر من ذلك أن الجلوس على طاولة واحدة يعني اعترافا صريحا بوجودها ككيان قائم، إذن من انتصر ومن انهزم إذا ما حشرنا أنفسنا في هذه الزاوية الضيقة من اللغة ؟
لفهم أبعاد هذه العودة بعيدا عن العواطف المرحلية، يجب الرجوع لقراءة السياقات التاريخية والسياسية التي أفضت لهذا الوضع ومساءلة الزمن السياسي الذي فتح أبواب المنظمة الإفريقية في وجه جبهة البوليساريو ، السياق طبعا كان مختلفا وإفريقيا نفسها كانت مختلفة.
لقد لعبت الجزائر دورا محوريا في دخول البوليساريو في المنظمة الإفريقية، وكان انسحاب المغرب آنذاك خطأ تكتيكي في مرحلة صعبة دفع المغاربة ثمنها غاليا ، ورهن الوطن بخيار سياسي لازالت تداعياته قائمة إلى الآن لولا السياسة الجديدة التي نهجها جلالة الملك محمد السادس بإطلاقه لمفهوم سياسي جديد، فتح الباب أمام المغرب لترتيب أوراقه جيدا ضمن مواجهة جديدة ومتجددة لصراع أبعاده أكبر بكثير من أن نحصرها بين المغرب والبوليساريو.
العودة اليوم تحيلنا على فهم السياقات وقراءتها جيدا ، فالعالم يعيش ضمن دينامية تغيير كبيرة غيرت معالم العديد من الأنظمة القائمة ، ودفعت ببعض الوجوه التي كانت تشكل في السابق أحد أعمدة إفريقيا إلى الاختفاء موتا أو نفيا، وقفزت المسألة الأمنية إلى واجهة أهم الأحداث المؤثرة في مسيرة الدول ، ولعل المغرب في هذا الاتجاه راكم تجربة كبيرة في محاربة الإرهاب القادم من الساحل والصحراء ، وصدر نموذجه ليس فقط لإفريقيا بل للعالم كله ،وهذا ما يجعل من المغرب الآن بلداً مؤثرا في السياسات الأمنية القارية والدولية ، سواء في مسألة الهجرة أو العبور المريح لرياح الربيع العربي وفق نموذج الإصلاح في ظل الاستقرار، كل هذه النقاط تجعل من المغرب فاعلا مهما في رسم خريطة إفريقيا مستقبلا، مصدرا بذلك نموذجه السياسي والديني المعتدل، في المقابل تعيش الجزائر الجارة أزمة سياسية صامتة، لم تستطع رغم غناها النفطي أن تحقق الرخاء الاقتصادي لشعبها أسوة ببعض دول الخليج، كما أنها لم تستطع مواكبة التحولات السياسية التي يعيشها جيرانها خصوصا تونس والمغرب ، لذا تحتاج الجزائر دوما إلى تصدير أزماتها السياسية والاقتصادية عبر قناة تصريف سياسية تشكل جبهة البوليساريو أحد دعائمها الرئيسية، إذن نحن أمام معادلة صعبة لم تستطع من خلالها الجزائر التحرر من أحقاد الماضي والتوجه للمستقبل ، ولم تستطع معها جبهة البوليساريو قراءة السياق السياسي الحالي بشكل مرن يمكنها من بناء قناعة أساسية ورؤية جديدة تستلهم مصالح ومستقبل مواطنيها الذين يعيشون شتاتا أبديا.
عودة المغرب اليوم وخطاب صاحب الجلالة لا يتعلقان باستعادة كرسي أو ملئه ، بل بتأسيس لمرحلة جديدة تعتمد أساسا على الاشتغال على آليات الهدم من الداخل لوضع سياسي موجود أو تواجد في سياق تاريخي لم يعد قائما الآن، المغرب تفطن مؤخرا إلى أن سياسة الكرسي الفارغ تخدم الجبهة أكثر مما تخدم غياب المغرب وتقوي تواجدها داخل هياكل الإتحاد ، واستشعر جيدا أن البوليساريو الآن تدرك جيدا أن مرحلة الخطر قد اقتربت وأن الحديث عن الاعتراف والجلوس على كرسي واحد هو مصادرة للمطلوب ، فالجلوس على طاولة واحدة كان قائما منذ مدة في مفاوضات "مانهاتن" ، ولم تعطى له كل هذه الدلالات التي أعطيت اليوم لعودة المغرب للإتحاد الإفريقي ، هذه العودة التي ستعيد بناء التوازنات وفق نسق جديد يجب أن تواكبه إستراتيجية شمولية تأخذ بعين الاعتبار ثقافة إفريقيا وحمولتها التاريخية ، وتتجاوز أيضا النظرة الدونية لإفريقيا التي تكرست في عقول بعض النخب المغربية ، إفريقيا تطورت بشكل كبير والمغرب مطالب برفع سقف الخطاب ومستوى النخب التي تُعين في عواصم هذه الدول ، لأن التقييم الحقيقي لهذه العودة لن يكون بمجرد ملء مقعد فارغ لدولة ما ، بل بوضع الهدف الأساسي من العودة نفسها نصب أعين الفاعل السياسي ، آنذاك سندرك من هو المنتصر أو المنهزم في هذا التكتيك الجديد.
جلالة الملك دشن مرحلة جديدة تتماشى مع ثقافته ورؤيته لمستقبل بلده، وأظن أن هذه الرؤية تتجاوز أحيانا كثيرة النخب السياسية التي تجد نفسها في كل مرة مجبرة على التأييد والمساندة لمفهوم جديد للفعل السياسي دون أن تقدم بدائل، أو تساهم على الأقل في تدليل الصعوبات أمام جلالة الملك الذي طالما فاجئ الفاعل الحزبي والسياسي بمبادرات جريئة وبجيل جديد من الخطب والإشارات ، وما عودة اليوم وخطاب أديس أبابا إلا صور من دينامية قوية لا يواكبها للأسف حراك سياسي يتفهم طبيعة المرحلة والرهانات الإستراتيجية والكلفة السياسية لنخب غير مبادرة، بل تكاد تكون مشلولة بفعل تجادبات سياسية لا تخدم سوى تصدير صورة داخلية عن وضع المشهد السياسي المغربي ، سيؤثر لا محالة على وضعنا في المحافل الدولية وخصوصا في إفريقيا القارة التي نريد أن نصدر لها تجربتنا السياسية.
العودة أيضا للإتحاد الإفريقي مرتبطة أساسا بنجاح التجربة الديمقراطية المغربية وبنضج النخب السياسية لأن العلاقة الجدلية أضحت قائمة بين المشهد السياسي الداخلي وتأثيراته الخارجية ، لا يمكن للمغرب أن يعود من منتصف الطريق ، كما لا يمكن أن تتقوى هذه العودة إلا بالحرص الشديد من الدولة والفاعلين السياسيين على نجاح النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، هذا النموذج الذي تواجهه إلى الآن صعوبات مسطرية وتقنية ، وأحيانا كثيرة مشكلات متعلقة بطبيعة الثقافات والعقليات السائدة ، ففشل النموذج يعني ببساطة فشل سقف الخطاب المقدم ، لأن أي خيار أخر سيصبح بمثابة ذر للرماد في العيون.
ملف الصحراء يعد حجر الزاوية في هذه العودة، وأعتقد جازما أن هناك ضرورة قصوى لتغيير نمط التعامل مع هذه القضية من زوايا متعددة، وأولها بناء جسور الثقة في الجيل الجديد وإدماجه في هذا الحراك الدبلوماسي وفق مقاربة جديدة تجعل منه شريكا في التدبير ، فلا يمكن اليوم أن تظل هذه النخب على الهامش، تاركة المجال لنخب متهالكة بدأت مع المنظمة الإفريقية وتصر على الاستمرار مع بداية الرجوع للإتحاد الإفريقي.
جلالة الملك بدى متأثرا وهو يقرأ خطاباً يدرك جيداً أبعاده السياسية ولا يمكن لنا أن نرى هذا التأثر دون أن نقدر في الملك إنسانيته وحرصه على مكانة بلده ، وأظن أننا جميعا مطالبون اليوم ببذل مزيد من الجهد لمسايرة أهداف وخطط الملك المستقبلية ، فالملك يحتاج الآن إلى قراءات جديدة لأهدافه وتحركاته تأخذ بعين الاعتبار الدينامية القوية التي يتحرك بها في إفريقيا وغيرها من الدول ، فللدموع معان كثيرة، فما بالك إذا كانت هذه الدموع من عيون ملك.
الأقسام:
مقالات