الأستاذ:عبد السلام زوير
رئيس قسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية ببولمان
رئيس قسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية ببولمان
يعود الاهتمام بالتحكيم التجاري في المغرب إلى عهد المولى إسماعيل، وتحديدا إلى سنة 1693 تاريخ إبرام معاهدة سان جرمان مع الدولة الفرنسية، التي تضمنت إمكانية الفصل في بعض النزاعات الخاصة عن طريق التحكيم( ). إلا أن أول تنظيم قانوني للتحكيم من طرف المشرع المغربي، كان بمقتضى ظهير المسطرة المدنية -الملغى- الصادر في 12 غشت 1913 والذي خصص له الفصول من 527 إلى 543( ) ثم جاء قانون المسطرة المدنية الحالي الصادر في 28 شتنبر 1974 واهتم كذلك بالتحكيم، فخصص له الفصول 306 إلى 327( ).
ولم يهمل المشرع المغربي مؤسسة التحكيم عند إنشائه للمحاكم التجارية، حيث نص في الفقرة الأخيرة من المادة 5 من قانون إحداث هذه المحاكم، على أنه: "يجوز للأطراف الاتفاق على عرض النزاعات المبينة أعلاه (والتي أسند اختصاص البت فيها للمحاكم التجارية) على مسطرة التحكيم وفق أحكام الفصول 306 إلى 327 من قانون المسطرة المدنية".
فما هو المقصود بالتحكيم؟ وماهي أهميته وشروطه؟ (المطلب الأول)، ثم ماهي آثاره، وكيف يمكن تنفيذ أحكام المحكمين بالمغرب؟ (المطلب الثاني).
المطلب الأول: مفهوم التحكيم وشروط انعقاده:
الفقرة الأولى: مفهوم التحكيم وأهميته:
يعرف الفقهاء التحكيم بأنه "لجوء المتنازعين إلى أحد الخواص يطلبون منه فض النزاع القائم بينهم"( )، إنه "قضاء خاص يستند على شرط تعاقدي"( )، أو هو "نظام تعاقدي يلجأ إليه فريقان لأجل حل الخلاف الناشئ بينهما بواسطة شخص أو أكثر من غير القضاة"( ).ففي التحكيم، يسند المتنازعين مهمة حسم نزاعهم إلى واحد أو اكثر يرتضونه أو يرتضونهم، وبهذا المعنى تظهر في التحكيم طبيعته الرضائية من ناحية، لكون المحكم أو المحكمين الذين يكلفون بالفصل في النزاع، معينين أصلا من قبل الأطراف وتظهر فيه من ناحية أخرى صفة العدالة الخاصة، "لأن المحتكمين ينشئون لأنفسهم محكمة خاصة بهم تختلف عن المحاكم التي تنظمها الدولة"، ولكن العدالة الخاصة هنا تتخذ صورة مهذبة حضارية فهي ليست كتلك العدالة التي عرفها الإنسان في فجر التاريخ حينما كان يقضي حقه من خصمه بيده وباستعمال القوة ضده(vengeance privée) دون الالتجاء للسلطة العامة( ). هذا مع العلم بأن هناك بعض المنازعات التي منع المشرع عرضها على التحكيم، وقصر حق النظر فيها على المحاكم وحدها (الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية).
وإلى جانب التحكيم الاختياري أو الاتفاقي أو التعاقدي، والذي يستند إلى الاتفاق الحاصل بين الأطراف –كما مر معنا– يوجد التحكيم الإجباري، الذي يقتصر على بعض المجالات المعينة والمحدودة كالتحكيم في نزاعات الشغل الجماعية طبقا لظهير 19 يناير 1946( ) والتحكيم في حوادث الشغل فيما يتعلق بالتعاريف الطبية أو الجراحية أو الصيدلية التي تعرض لزوما على لجنة المراقبة والتحكيم (الفصل 207 من ظهير 25 يونيو1927).
ومقابل اهتمام المغرب بالتحكيم الداخلي –على غرار التشريعات المقارنة– فإن اهتمامه بالتحكيم التجاري الدولي ظل قاصرا ومحدودا، مما أثار صعوبة كبيرة أمام المهتمين بهذا الموضوع، تتمثل في معرفة الوضعية القانونية للتحكيم التجاري الدولي وقواعده وأسسه؛ كمعرفة متى يكون التحكيم دوليا وماهو المعيار الذي يمكن الاعتماد عليه للقول بأن هذا التحكيم هو داخلي وذلك خارجي، مما تترتب معه صعوبات أخرى تتعلق بالإجراءات المسطرية التي تخضع لها أحكام المحكمين.
وأمام هذا الفراغ التشريعي المهول( ) يعتقد بعض الفقه( ) بأن المشرع المغربي قد ترك ذلك للاتفاقيات الدولية منها والثنائية التي تناولت موضوع التحكيم الدولي، والتي صادق عليها المغرب.
وقد شهد التحكيم في الميدان التجاري اهتماما وتطبيقا أكبر، لأن المشرع سمح، في الفقرة الثانية من الفصل 309 من قانون المسطرة المدنية، بالتعيين المسبق لمحكم واحد أو لعدة محكميين إذا تعلق الأمر بعمل تجاري، بينما لم يسمح به في المسائل المدنية( ).
وتظهر أهمية التحكيم، في أنه يسمح للأطراف في اختيار المحكم أو المحكمين الذين يرتضونهم ويثقون فيهم، كما يحافظ لهم على أسرارهم المهنية، ويسمح باستمرار علاقاتهم العملية حتى أثناء قيام النزاعات المعروضة على التحكيم، وحتى إلى ما بعد صدور قرارات تحكيمية بشأنها( )، كما أن المحكمين غالبا ما يكونون على اطلاع كبير بالميدان المتخصص المدعوون للتحكيم فيه( )، وبإمكان الأطراف إعفاؤهم من اتباع المساطر القضائية (المعقدة) (الفصل 311 من قانون المسطرة المدنية)، والاستناد لقواعد العدل والإنصاف في فض النزاعات المعروضة عليهم، دون التقيد بالقواعد القانونية المطبقة على هذه النزاعات (الفصل 317 من قانون المسطرة المدنية).
الفقرة الثانية: شروط قيام التحكيم التجاري:
يتخذ الاتفاق على التحكيم أحد شكلين؛ فهو إما عقد للتحكيم compromis Le وهو الوثيقة التي يتفق الأطراف بموجبها على عرض النزاعات التي حدثت بينهم على محكم أو محكمين( ). كما يمكن أن يتخذ شكل شرط للتحكيم la clause compromission حيث يتفق أطراف العقد الأصلي –سواء كان عقدا مدنيا أو تجاريا- على أن ما ينشأ من نزاع حول تفسير هذا العقد أو تنفيذه يحل بواسطة محكمين( ). فعقد التحكيم يأتي، إذن، لاحقا لحدوث النزاع بين المتعاقدين، ولا يأتي في شكل شرط أو بند في العقد الأصلي، بل يأخذ شكل اتفاق متكامل، موضوعه اختيار نظام التحكيم لحل النزاع( ).ويشترط لقيام الاتفاق على التحكيم التجاري الشروط التالية:
أولا: الأهليـة:
نص الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية على أنه: "يمكن للأشخاص الذين يتمتعون بالأهلية أن يوافقوا على التحكيم في الحقوق التي يملكون التصرف فيها".مما يفيد أنه لا يكفي أن يتمتع الأشخاص (الأطراف) بأهلية التعاقد لإبرام اتفاق التحكيم، أو أهلية التقاضي، ولا يستلزم كذلك أن تكون لهم أهلية التبرع، لأن عقد التحكيم ليس من قبيل التبرع بالحق، أي يجب أن يكون الشخص متمتعا بأهلية التصرف في الحق موضوع النزاع.
وعلى هذا الأساس، فالأشخاص الذين لا تتوفر لديهم هذه الأهلية كالقصر والمحجور عليهم ليسوا أهلا لإبرام اتفاقات التحكيم. فإذا ما أبرم أحدهم اتفاقا كان الاتفاق باطلا( ) كما لا يجوز للوكيل بغير إذن خاص إبرام هذا العقد( ).
ثانيا: الكتابـة :
يستوجب المشرع صياغة الاتفاق على التحكيم في محرر مكتوب (الفصل 307 من قانون المسطرة المدنية) وهكذا لا يجوز إثبات عقد التحكيم بالقرائن أو بشهادة الشهود، ويبقى التساؤل مطروحا حول إمكانية إثبات عقد التحكيم بالإقرار وأداء اليمين القانونية من جهة، ويطرح تساؤل آخر من جهة أخرى، حول ما إن كانت الكتابة شرط إثبات، أم هي شرط وجود وصحة؟( ).على أن عقد التحكيم يمكن أن يرد في محرر عرفي بمقتضى محضر يقام أمام المحكم أو المحكمين المختارين، أو في محرر رسمي بمقتضى وثيقة أمام موثق أو عدلين، أو بأي سند كالرسائل المتبادلة أو البرقيات، شريطة أن تكون إرادة الطرفين ظاهرة( ).
أما بالنسبة لشرط التحكيم فإن الفصل 309 من قانون المسطرة المدنية، يستوجب أن يكون شرط التحكيم مكتوبا باليد، وموافقا عليه بصفة خاصة من لدن الأطراف تحت طائلة البطلان، هذا إذا ثم تعيين المحكم أو المحكمين مسبقا وفي نفس العقد، أما إذا لم يتم هذا التعيين المسبق للمحكمين، فإن المشرع لم يورد لشرط التحكيم أي شكليات خاصة به.
ثالثا: موضوع التحكيم :
ينص الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية على أن الحق لا يكون محلا للتحكيم إذا كان مما لا يجوز التصرف فيه، وتولى المشرع في الفقرة الثانية بيان الأحوال التي لا يجوز الاتفاق على التحكيم بشأنها، وهي تلك المتعلقة بالحالة الشخصية أو التي تمس النظام العام…وعلة إخراج المنازعات التي لا يجوز الصلح فيها، هو رغبة المشرع بمنع الصلح وبسط ولاية القضاء العام على هذه المنازعات، وهو ما يقتضي أيضا منع التحكيم بشأنها( ). وغني عن البيان، أن الاتفاق على التحكيم جائز سواء قبل نشوب النزاع أو بعده (الفصل 309 من ق.م.م).ومن البيانات الأساسية التي أوجبها الفصل 308 من ق.م.م في سند التحكيم، تحديد الأجل الذي يتعين على المحكم أو المحكمين، أن يصدروا فيه قرارهم التحكيمي. وإذا لم يحدد السند أجلا يستنفذ المحكمون صلاحياتهم بعد ثلاثة أشهر من تاريخ تبليغ تعيينهم.
فالأصل أنه يجب تحديد أجل للمحكمين لإصدار قرارهم في سند التحكيم، حيث يعمد الأطراف إلى تحديد الأجل الذي يجب على المحكمين إصدار حكمهم فيه. إلا أن العبارة الأخيرة من الفصل المذكور، تفيد أنه يمكن بصفة استثنائية ألا يقع تحديد الأجل في سند التحكيم. ويترتب على ذلك أنه بعد فوات ثلاثة أشهر من تاريخ تبليغ المحكمين، لم تعد لهم – المحكمين – أية صلاحية للبث في النزاع الذي عرض عليهم على أساس ذلك الاتفاق، ويحق للطرف ذي المصلحة أن يلتجأ إلى القضاء العادي لأن التحكيم يكون في حكم المنتهي، وهذا ما أكده الفصل 312 من ق.م.م، ولا يترتب على عدم تحديد الأجل في سند التحكيم أي بطلان( ).
المطلب الثاني: آثار الاتفاق على التحكيم وتنفيذ القرارات التحكمية:
يترتب عن الاتفاق على التحكيم عدة أثار (الفقرة الأولى) بينما يخضع تنفيذ القرارات التحكمية لمجموعة من الضوابط (الفقرة الثانية).الفقرة الأولى: آثار الاتفاق على التحكيم:
لم يقصر المشرع المغربي شرط التحكيم على العقود التي يكون أطرافها تجارا فقط، بل يجوز التحكيم حتى بالنسبة للعقود المختلطة (المادة 5 من قانون إحداث المحاكم التجارية) مادام يمكن النص على بند التحكيم حتى في العقود المدنية، وبالنسبة لما لم يستثنه القانون (الفصل 306 من ق.م.م). هكذا يترتب على شرط التحكيم – أيا كانت صورته – أثران هامان، أثر إيجابي هو الحق في الالتجاء إلى التحكيم، وأثر سلبي من حيث الاختصاص القضائي، بحيث إذا وجد شرط التحكيم ومع ذلك تم رفع الدعوى مباشرة أمام القضاء، فيحق للطرف الثاني أن يدفع بوجود شرط التحكيم ويتمسك به( )، والدفع بعدم اختصاص المحكمة القضائية بسبب وجود اتفاق التحكيم أو شرطه، هو دفع نسبي لا مطلق، بحيث يتعين على من له مصلحة فيه أن يثيره قبل كل دفع أو دفاع في الجوهر( ).وإذا كان يجوز رد المحكم بسبب التجريح، أو بسبب آخر يصير به المحكم غير صالح للتحكيم (الفصل 313 من ق.م.م)، فإنه لا يجوز عزل المحكمين إلا بتراضي الأطراف (الخصوم).
ومن المسلم به أن العلاقة بين المحكم والخصم، علاقة تعاقدية تنبثق منها حقوق وواجبات المتعاقدين. وكأصل عام فإن واجب المحكم الأساسي ينحصر في تنفيذ اتفاق التحكيم المبرم بين الخصوم، بما يستتبع من إصدار الحكم خلال مهلة التحكيم، وما يندرج تحته من التقيد بطبيعة المهمة الموكلة إليه، وباتباع إجراءات نظر الدعوى المتفق عليها مع الخصوم…مع العلم بأن حقوق والتزامات الخصوم والمحكمين تختلف باختلاف العقود المبرمة بينهم( ).
هذا وإن الاتفاق على التحكيم – بمقتضى عقد أو شرط – لا يمنع من الالتجاء إلى القضاء التجاري الاستعجالي، من اجل اتخاذ الإجراءات المستعجلة الضرورية كالوضع تحت الحراسة أو إجراء بعض الحجوز التحفظية أو أي إجراء تحفظي آخر( )، ذلك أن المحكمين ليست لهم الصلاحية لاتخاذ الإجراءات الوقتية والتحفظية( )، والتي تبقى من اختصاص رئيس المحكمة التجارية المختصة، مادام أن قاضي الأمور المستعجلة لا يبت إلا في الإجراءات الاستعجالية من خلال التدابير التحفظية ودون المساس بجوهر النزاع.
الفقرة الثانية: تنفيذ القرارات التحكمية:
بعد عرض النزاع على التحكيم ودراسته ومناقشته، يصدر المحكم أو المحكمين، الحكم في الموضوع، ويجب أن يكون الحكم مكتوبا ويتضمن أسماء المحكمين وصفاتهم، والأطراف أو ممثليهم ومحاميهم، وتاريخ الحكم ورقمه، والوقائع والتعليل والقواعد المطبقة إذا لم يعارض الأطراف في ذلك، ومنطوق الحكم ومحل إصداره، مع توقيع المحكم أو المحكمين (الفصل 318 من ق.م.م). ويمكن للمحكمين عرض حكمهم على الأطراف للحصول على موافقتهما التي تثبت في محضر يوقعانه يكون بمثابة عقد بينهما( ).هكذا إذا رضي الأطراف بالحكم الصادر عن المحكم أو المحكمين، فإنهما ينفذانه تلقائيا وطواعية، أما إذا لم يقبل أحدهما بهذا الحكم، فإنه لا يمكن اللجوء إلى طرق التنفيذ الجبري إلا بعد منح الأحكام التحكمية الصيغة التنفيذية من لدن الجهة القضائية المختصة، وهنا ينبغي التمييز بين القرارات التحكمية الوطنية والقرارات التحكمية الأجنبية.
أولا: بالنسبة للقرارات التحكمية الوطنية.
يصير الحكم التحكيمي الصادر بالمغرب، قابلا للتنفيذ بأمر من رئيس المحكمة التي صدر في دائرة نفوذها أو الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف عند استئنافه من أحد الأطراف (الفصل 320 من ق.م.م)، وذلك عن طريق تديييل الحكم التحكيمي بالصيغة التنفيذية.ويقوم بمنح الصيغة التنفيذية لحكم المحكمين في المادة التجارية، وفي حدود اختصاص المحاكم التجارية رئيس المحكمة التجارية، طبقا للمادة 20 من قانون إحداث المحاكم التجارية، والتي جاء فيها: "يمارس رئيس المحكمة التجارية الاختصاصات المسندة إلى رئيس المحكمة الابتدائية بموجب قانون المسطرة المدنية وكذا الاختصاصات المخولة له في المادة التجارية"( ).
ويقدم طلب تذييل الحكم التحكيمي بالصيغة التنفيذية، وفق نفس شروط تقديم المقالات أو الطلبات إلى المحكمة، سواء من حيث البيانات التي يجب أن يتضمنها، وكذلك أداء الرسوم القضائية الواجبة. ويشترط أن يتم تقديم هذا الطلب بواسطة محامي( )، ويتعين إرفاق هذا الطلب بأصل الحكم التحكيمي – الموقع عليه من طرف المحكم أو المحكمين – ( ) ولا يصدر الرئيس أمره بالتنفيذ إلا بعد الإطلاع على وثيقة التحكيم "للتأكد من أن الحكم التحكيمي غير معيب ببطلان يتعلق بالنظام العام، وخاصة بخرق مقتضيات الفصل 306" (الفصل 321 من قانون المسطرة المدنية).
وبالرغم من تطبيق القواعد المتعلقة بالنفاذ المعجل على أحكام المحكمين، فإن آثارها- ولو أمر بتنفيذها أو ذيلت بالصيغة التنفيذية- لاتسري بالنسبة للغير الذي يمكن له أن يقدم تعرض الغير الخارج عن الخصومة وفق المسطرة والشروط المحددة في الفصول 303 إلى 305 من قانون المسطرة المدنية (الفصل 325من نفس القانون)( ).
وإذا كانت القرارات التحكيمية لا يمكن أن تكون محلا للطعن فيها بالتعرض أو الاستئناف أو النقض (الفصل 319 من ق.م.م) فإنه من الممكن أن تكون موضوع طلب إعادة النظر أمام المحكمة التي قد تكون مختصة في القضية لو لم يتم فيها التحكيم (الفصل 326 من ق.م.م).
وللتوفيق بين ضمان حقوق الدفاع، المتمثلة في تعدد درجات التقاضي، وبين اعتبارات السرعة في فض النزاعات التجارية، جعل المشرع المغربي خضوع الأمر الصادر عن رئيس المحكمة التجارية، بإعطاء الصيغة التنفيذية لحكم المحكمين، للاستئناف متوقفا على إرادة الأطراف الذين أجازت لهم الفقرة الثانية من المادة 322 من ق.م.م إمكانية التخلي مقدما عن هذا الاستئناف عند تعيين المحكمين أو بعد تعيينهم وقبل صدور حكمهم( ).
ثانيا: بالنسبة للقرارات التحكيمية الأجنبية.
تثير القرارات التحكيمية الأجنبية نوعا من الصعوبات من الناحية القانونية، بالنظر إلى أن الدولة في العالم لها سيادتها، فلم يعد من الجائز تنفيذ أحكام المحكمة الأجنبية، إلا بعد إعطائها قوة تنفيذية من قبل القضاء الوطني، وهذا ما يسمى التذييل بالصيغة التنفيذية أسوة بالاحكام القضائية عندما يراد تنفيذها داخل المغرب( ).والواقع أن إعطاء الصيغة التنفيذية للأحكام التحكيمية، يتم من قبل القاضي المغربي بناء على المعاهدات الدولية التي صادق عليها المغرب، كما هـو الحال مثلا بالنسبة للقرارات التحكيمية الأجنبية الخاضعة لاتفاقية نيويورك المبرمة فـي 10/06/1958 بشأن الاعتراف بالمقررات التحكيمية الأجنبية وتنفيذها والتي صادق عليها المغرب بمقتضى الظهير الشريف 266 – 1 – 59 بتاريخ 19 يناير 1960، ثم اتفاقية لاهاي المؤرخة في فاتح مارس 1954 المتعلقة بالمسطرة المدنية والتـي ثم الانخراط فيها بمقتضى ظهير 30/09/1969، بالإضافة إلى اتفاقيـة واشنطـن (B.I.R.D) لتسوية المنازعات الاستثمارية بين الدول ومواطني الدول الأخرى، المؤرخة في 18/03/1965 والتي صادق عليها المغرب، وأصبح دولة متعاقدة فيها بتاريخ 10/06/1967 (المرسوم عدد 564 – 65).
وهناك الاتفاقيات الثنائية المبرمة مع بعض الدول، كالاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية الموقعة بعمان بتاريخ 29/11/1980، والتي انضم إليها المغرب في 07/09/1981، ثم اتفاقية تسيير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية الموقعة في تونس بتاريخ 27/02/1981، والتي صادق عليها المغرب في 16/12/1983، وكذلك اتفاقية عمان للتحكيم التجاري الموقعة في الأردن بتاريـخ 04/04/1987.
هذا وإن إضفاء الصيغة التنفيذية على القرارات التحكيمية الأجنبية، يتم بناء على الفصل 19 من ظهير 12/08/1913 المتعلق بالوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب، الذي يجيز تنفيذ أحكام المحكمين الأجانب والأحكام الأجنبية بناء على شرط المعاملة بالمثل، إلا أن قانون المسطرة المدنية – الحالي – نجده لم يتعرض لهذا الشرط، فهل يعني هذا السكوت أن القضاء المغربي لا يأذن بتنفيذ القرار التحكيمي الصادر في الخارج إلا إذا كان قانون تلك الدولة يقبل بدوره تنفيذ القرار التحكيمي الصادر في المغرب بنفس الشروط وفي نفس الحدود؟ أم أنه رغم سكوت المشرع فإن القضاء يأخذ بشرط المعاملة بالمثل؟. يبدو أن المشرع المغربي، ومن ورائه القضاء، يستبعدان هذا الشرط( ).
ويلاحظ من استقراء الاتفاقيات المذكورة أعلاه، أنها تستلزم نفس الشروط التي تشترطها لتنفيذ الأحكام القضائية، بالإضافة إلى شروط خاصة بالتحكيم( ).
ولعل الفائدة التي حققتها اتفاقية نيويورك، هي مواكبتها لمتطلبات التنفيذ، ورفعها لعبء إثبات شديد عن كاهل طالب التنفيذ، كان كثيرا ما يقف عقبة أمامه، فالمادة الرابعة من الاتفاقية لا تتطلب ممن يرغب في تنفيذ قرار تحكيمي أجنبي مما تنطبق عليه الاتفاقية سوى أن يتقدم بطلبه هذا إلى الجهة المختصة في البلد المطلوب فيه التنفيذ، مشفوعا بوثيقتين:
1- الأصل الرسمي لقرار التحكيم أو صورة منه مستجمعة للشروط المتطلبة لها كصورة رسمية.
2 – أصل اتفاق التحكيم أو صورة منه مستجمعة للشروط المتطلبة له.
وإذا كانت هذه الوثائق محررة بغير لغة البلد المطلوب فيه التنفيذ، فعلى طالب التنفيذ تقديم ترجمة لها، على أن تكون ترجمة رسمية( ).
وعند عرض القرار التحكيمي على القضاء المغربي، فإنه لا يملك النظر في موضوع النزاع، إذ لاحق له في مراجعة القرار، وإن كان ملزما بالتأكد من أن هذه القرارات غير مشوبة بالبطلان المتعلق بالنظام العام (النظام العام الدولي المغربي)، بحيث يكون صادرا في مسألة يجوز فيها التحكيم (الفصلين 306 و321 من ق.م.م) (الفصل 5 من اتفاقية نيويورك والمادة 6 من الاتفاقية الأوروبية…) ومستندا على شرط تحكيم صحيح أو سند تحكيمي صحيح.
الأقسام:
المادة التجارية