النفقة وفق مدونة الاسرة المغربية
مقدمة
تعتبر الأسرة الخلية الأساس في المجتمع، فهي اللبنة
الأولى التي تشكله، باستقامتها يستقيم المجتمع بأكمله، و بانحلالها يتخلخل البناء
السليم للمجتمع، فهيمتكونة من روابط الزواج
والأبوة...، وقائمة على أساس علاقات التعاضد والمودة والرحمة والمعاملة بالمعروف
والالتزام المتبادل بين الزوجين، وفي ذلك يقول جل شأنه:" ومن آياته أن خلق
لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة".
و قد اهتمت الشريعة الإسلامية
بالأسرة اهتماما بالغا، حيث جعلت الزواج السبيل الوحيد لتأسيسها، وقد اعتبرته أقدس
الروابط التي تجمع بين بني البشر، إذ نعتها الله سبحانه وتعالى في كتابه
العزيز بالميثاق الغليظ حينما قال :"وأخذن منكم ميثاقا
غليظا".
و قد نظم القانون العلاقات الأسرية كجزء من العلاقات
الإنسانية وئاما وخلافا، سعيا لإقاماتها على أمتن الدعائم، و الالتزام فيها بحسن
الصحبة و جميل المعاشرة، و إشاعة االرغد و السعادة داخل الأسرة، و هي الفضاء الذي
يشبع فيه الفرد حاجياته المعنوية و متطلباته المادية.
و تتجلى الحكمة في إحاطة العلاقات الأسرية
بالتنظيم الدقيق، في عدم ترك الناس إلى طبائعهم إزاء واجباتهم و مسؤولياتهم
العائلية، لما قد يدعو إليه من مفاسد عظيمة الخطر، بتخلص الأزواج من واجبهم
نحو زوجاتهم، و قلة عناية الاباء بالأبناء وهم صعاف في مسيس الحاجة إلى العناية
بهم، و تملص الأبناء من الإحسان إلى ابائهم.
و لعل من بين أهم الواجبات المترتبة عن عقد الزواج، ما
يتحمله الزوج من واجب الرعاية الاقتصادية للأسرة، وذلك بالإنفاق على الزوجة
والأطفال، كما يتحمل الأطفال عند بلوغهم مع القدرة على الكسب، واجب الإنفاق على
والديهم بشروط معينة.
هذا و يقصد بالنفقة لغة:
الإخراج والذهاب، يقال نفقت الدابة، إذا خرجت من ملك صاحبها بالبيع أو الهلاك كما
يقال إذا راجت بالبيع، فمصدره النفوق، كالدخول والنفقة اسم المصدر، وجمعها نفقات،
ونفاق – بكسر النون-. أما في اصطلاح الفقهاء فهي إخراج الشخص مؤونة من تجب عليه
نفقته من طعام ، وكسوة، ومسكن ونحو ذلك.
و قد عالج الفقهاء المسلمون
النفقة انطلاقا منقوله تعالى:"الرجال قوامون
على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم"، فالنفقة هي
الصورة البارزة لقوامة الرجل على المرأة داخل الأسرة، فقد كان الزوج هو المكلف
بمهمة الإنفاق على أفراد أسرته باعتباره مسؤولا عن شؤونها المادية والمعنوية.
و نظرا لأهمية النفقة فقد أفرد
لها المشرع المغربي تنظيما خاصا في مدونة الأسرة، فنص في المادة 187 من مدونة
الأسرة، على أن نفقة كل إنسان من ماله إلا ما استثني بنص القانون، كما حدد أسباب
وجوبها في الزوجية والقرابة والالتزام، وقرر أنه لا تجب على الإنسان نفقة غيره إلا
بعد أن يكون له مقدار نفقة نفسه، وتفترض الملاءة في الملزم بالنفقة إلى أن يثبت
العكس.
و إذا كان من المتفق عليه في
الفقه الإسلامي، و كذا في مدونة الأسرة المغربية أن الزوج هو الملزم بالنفقة. لكن
قد يحدث أن يصبح الزوج غير قادر على الإنفاق لعسره، فإن الفقه الإسلامي اختلف حول
ما إذا كان واجب الإنفاق ينتقل إلى الزوجة أو أن الزوج يبقى هو الملزم به رغم
عسره، أما مدونة الأسرة فقد ألزمت الزوجة الموسرة بالإنفاق على أطفالها في حالة
عجز الأب عن ذلك.
هذا و قد حددت مدونة الأسرة
مشمولات النفقة،وهي واردة على سبيل المثال إذ يمكن أن تشمل عناصر إضافية يقدرها
القاضي لم يتم النص عليها في المادتين السابقتين وذلك لمجموعة من الاعتبارات،
اعتمدها المشرع المغربي لتقدير النفقة، والتي هدف من وراءها الوصول بأحكام النفقة
إلى مبالغ معقولة، تكفي لسد حاجيات مستحقيها.
و قد جعل المشرع المغربي
للنفقة، مجموعة من المؤيدات تميزها عن غيرها من الديون الأخرى العادية لحمايتها،
كما أكد على هذه الحماية في القانون الجنائي، الذي يقرر عقوبة زجرية في حق كل
ممتنع عن أداء النفقة الواجبة عليه.
و تكمن أهمية دراسة موضوع النفقة في التغيير الحاصلللأسرة على مستوى تركيبتها،و دور كل
فرد فيها، فلم يعد الرجل وحده القادر على الكسب وإعالة الأسرة، كما لم تعد المرأة
تكتفي بالدور التقليدي المتمثل في العمل داخل البيت، والسهر على تربية الأطفال، بل
تحولت إلى فاعل اقتصادي هام، و تشكل نسبة مهمة من اليد العاملة في مختلف الميادين. أضف إلى ذلك ما حصل من تغيير
على مستوى المقتضيات القانونية المنظمة للنفقة.
و من هذا
المنطلق يمكن طرح الاشكال التالي: إلى أي حد استطاع المشرع المغربي من خلال مدونة
الأسرة وضع تنظيم قانوني دقيق عالج معه ما تطرحه النفقة من إشكالات؟، يمكن القول
أن أهمها أساس وجوب نفقة الزوجة؟، ومدى إمكانية مساهمتها في
النفقة الزوجية؟ وما هي مشتملات النفقة ؟ وما هي الاعتبارات المعتمدة في تقديرها؟
وكيف تعامل القضاء المغربي مع كل ذلك؟...
ذلك ما
سنحاول الاجابة عنه من خلال اعتمادنا للتصميم التالي:
المبحث
الأول: المقتضيات القانونية المتعلقة بالنفقة
المبحث الثاني: الإشكاليات التي
يطرحها موضوع النفقة
إن هاته المقتضيات تتمحور أساسا حول أحكام عامة للنفقة و هو ما سنتطرق له
في المطلب الأول، و أحكام خاصة و هي ما سنتطرق لها في مطلب ثان
يمكن القول أن الأحكام العامة تدور بين مشتملات النفقة و ضوابط تقديرها من
جهة، و هذا ما سنتناوله في الفقرة الأولى، و الحماية القانونية التي أفردها المشرع
للنفقة من جهة ثانية، و هذا ما سنتطرق له في الفقرة الثانية.
نبتدأ أولا بمشمولات النفقة، ثم نمر للحديث عن ضوابط تقديرها
أولا:مشتملات النفقة
1- موقف الفقه من عناصر النفقة
اختلفت آراء الفقه الإسلامي في
تحديد عناصر بين موسع ومطبق لها بحيث ذهب المذهب الحنفي، إن القول بأن النفقة
تشمل: الطعام والكسوة والسكنى في منزل لائق بحالهما، ويشترط في المنزل أن يكون
مشتملا على جميع المنافع اللازمة، ولا يلزمه الدواء وأجرة الطبيب؛ واختلف في أجرة
القابلة فمنهم من قال بأنها تجب على الزوج لأن منفعتها راجعة على الولد ونفقته على
والده، وقيل على من استدعاها منهما، أما أجرى الخادم فهي تتبع حال الزوجة، فهي لا
تجب عليه إلا إذا كانت من الأسر التي لا تخدم نفسها.
وفي نفس الاتجاه ذهب كل من
المذهب المالكية والشافعية والحنابلة، لكن المذهب المالكي زاد عن ذلك وجوب أجرة
القابلة على الزوج وكذلك كل زينة تتضرر بتركها كحل ودهن معتادين وحكاء ومشط، وفيما
يخص السكنى فقد قرروا بأن لها الامتناع من أن تسكن مع أقاربه إلا لضرر أو شرط .
2- موقف مدونة الأسرة من عناصر النفقة
من خلال المادة 189 من مدونة
الأسرة نستشف على أن النفقة تشمل الغذاء والكسوة والعلاج، وما يعتبر من الضروريات
والتعليم للأولاد، مع مراعاة أحكام المادة 168 من نفس المدونة التي لا تدخل في
مشمولات النفقة تكاليف سكنى المحضون وأجرى الحضانة.
ومن الواضح أن المشرع المغربي
لم يتحدث في النص أعلاه عن السكنى، وإنما أحال على المادة 168 التي تقرر بأن
تكاليف سكنى المحضون مستقلة في تقديرها عن النفقة وأجرة الحضانة وغيرهما ، وما يدل
على وجوبها للزوجة ما نصت عليه المادة 196 التي جاء فيها " المطلقة رجعيا يسقط
حقهافي السكنى دون النفقة إذا انتقلت من بين عدتها دون موافقة زوجها أو دون عذر
مقبول".
فبالإضافة إلى اشتمال النفقة
على الغذاء والكسوة والعلاج والسكن، فمن المنطقي أن تستمل على مصاريف الولادة
والنفاس والعقيقة، باعتبارها من الضروريات المنصوص عليها في المادة 189 من مدونة
الأسرة المغربية
كما تعتبر توسعة الأعياد من
مشمولات النفقة وهو ما دأب إليه القضاء المغربي على أنه" تعتبر واجبات
الأعياد والمناسبات من مشتملات النفقة طبقا لمقتضيات المادة 189 من مدونة الأسرة.
ثانيا: ضوابط تقدير النفقة
تعرف مسألة تقدير النفقة صعوبة
عند القضاء و الفقه، و لا أدل على ذلك من اختلاف المذاهب الفقهية في ذلك، فقوله
صلى الله عليه و سلم لهند بنت عتبة، حينما أتته تشتكي زوجها أبا سفيان من شحه، و
عدم إعطائه إياها ما يكفيها و يكفي ابنها من النفقة " خذي
من ماله ما يكفيك و ولدك بالمعروف".
فهذا الحديث يفيذ في ذاته
صعوبة تقدير النفقة، إذ لم يحدد قيمة هاته الكفاية، فبقي للمرأة أن تقدر هي
نفسها ما يكفيها، و تختلف من حيث مراكز الغنى و الفقر و القناعة و الجشع.
و هكذا إذن، فإن الأساس هو
النظر إلى مجموعة من الضوابط و المعايير التي تساعد في تحديد مبلغ النفقة و من
بينها، مراعاة دخل الملزم بالنفقة و حال مستحقها بما يتلاءم مع مستوى الأسعار في
النقطة الأولى و كذلك مراعاة أعراف و عوائد الوسط و لو اقتضى الحال الاستعانة
بخبير في النقطة الثانية
إن من بين أهم المعايير التي
يجب مراعاتها في تحديد النفقة دخل الملزم بها ، على أن ينظر كذلك إلى مستوى
الأسعار و التوسط .
أ-مراعاة دخل الملزم
بالنفقة و حال مستحقها
يعتبر دخل الزوج المعيار
الأساس في تحديد النفقة، و قد حثه الله سبحانه و تعالى على التوسعة على زوجته و
عياله في الإنفاق، و ذلك مصداقا لقوله تعالى :" لينفق ذو سعة من سعته و من
قدر عليه رزقه فلينفق مما اتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما اتاها سيجعل
الله بعد عسر يسرا".
فالأصل إذن في تقدير النفقة
مراعاة الإمكانيات المادية للملزم بها و حال مستحقها، و التقدير القضائي لها يقتصر
على الضروريات اللازمة للعيش، دون أمور الرفاهية التي يتطوع بها الملزم بها حال
عدم وجود النزاع، فلو لم يكن دخل الملزم بالنفقة محل تقدير، لأدى ذلك أحيانا إلى
التكليف بما يجاوز الوسع، و الحكم بما لا يطيقه، و هذا فيه مخالفة للضابط القراني:"
و الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا كان بين ذلك قواما ".
و هكذا إذن، فإنه عند ما يلف
وشاح المحبة و المودة و التراحم العلاقات الأسرية، يكون الإنسان أميل إلى المكارمة
و التوسعة على ذويه في النفقة و الكد في إرضائهم، فيجود عليهم بأجود الأطعمة و
رفيع اللباس و كماليات الحياة...، التي هي من باب الإحسان و التفضل و غير ملزمة
قضاء.
و خلافا لذلك، فعند النزاع
يعود الإنسان إلى حالته الطبيعية من تقتير و تشاح لقوله تعالى:" و كان
الأنسان قتورا"، فيجحد حق المستحق للإنفاق أو التضييق عليه بالتذرع بالعسر، و
دعوته خصمه إلى إثبات اليسر الذي هو خلاف الأصل في الناس العسر، و لما غلب على
الناس الملاء صدق مدعيه تقديما للغالب على الأصل.
هذا و لا يجب تغييب حال
مستحقها، و مركزه الاجتماعي، و الظروف التي يعيش فيها، و هذا ما نصت عليه المادة
185 من مدونة الأسرة بقولها: " تحدد مستحقات الأطفال بنفقتهم طبقا للمادتين
168 و 190 بعده، مع مراعاة الوضعية المعيشية و التعليمية التي كانوا عليها قبل
الطلاق"
كما يجب أن تتركز العناصر
المعتمدة في تحديد مستحقات الأطفال، على الوضعية التي كانوا يعيشون عليها قبل وقوع
الطلاق، معيشة، و تعليما، و صحة، انطلاقا من معايير موضوعية.
و تماشيا مع المادة 85 يجب على
المحكمة عند تحديد مستحقات الأطفال، مراعاة الوضعية المعيشية و التعليمية قبل
الطلاق، فالمناط إذن مراعاة حالة الملزم بها المادية يسرا و عسرا، و إذا تغيرت هذه
الحالة بين تاريخ استحقاق هذه النفقة، و تاريخ القضاء بها، فالمعتد به هو تقديرها
وقت الاستحقاق لا وقت القضاء، و هذا طبعا مع ضرورة مراعاة التوسط و الاعتدال.
ب- الأخذ في الاعتبار التوسط و مستوى الأسعار
يمكن القول بداية أن اعتبار
التوسط من طرف القاضي هو الكفيل بتنفيذ ما قدر من نفقة، ذلك أن إثقال كاهل الملزم
بمبالغ باهظة، لن يمكن المنفق عليه من التوصل بها.
و تدخل القضاء في فرض النفقة و
تقديرها لا يكون طبعا إلا عند النزاع، و الإنسان مطبوع على اللّدد في الخصومات، و
الميل إلى حماية مصلحته، و لو بالمساس بمصالح الاخرين، بما فيهم أقرب الناس إليه،
و من الطبيعي بمناسبة النزاع أن يسعى طالب الإنفاق إلى الحصول على تقدير مرتفع،
ربما يفوق طاقة الملزم بها، و بالمقابل يسعى هذا الأخير إلى جحوده أو التقليل قدر
الإمكان منه.
هذا و إحقاقا للتوازن أوجب
القانون على المحاكم مراعاة التوسط في التحديد، دون تبذير و القضاء بما هو فوق
الحاجة، و لا تقتير و لا تضييق على مستحق النفقة لقوله تعالى :" و لا تجعل
يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كل البسط"، و إن ما زاد عن التوسط تنعم في
الملذات و كمال غير واجب، وفضلا عن الأخذ بعين الاعتبار مستوى الأسعار غلاء و
رخصا، و هذا ما ذهب إليه المجلس الأعلى في قرار له، حيث رفض طلب الطاعنة في المبلغ
المحكوم به استئنافيا كنفقة، لعلة الهزال في التقدير و عدم تغطيته لحاجات المنفق
عليها و جاء فيه :" لكن حيث إن تقدير النفقة يرجع إلى سلطة المحكمة، و لا
رقابة عليها مادام قرارها مؤسس على أسباب سائغة، و البين من القرار المنفذ أنه
راعى عناصر الإنفاق، منها دخل الملزم بها و حال مستحقها، و مستوى الأسعار و
العادات، وع اعتبار التوسط، حسب المادة 189 من مدونة الأسرة، فالوسيلة لذلك غير
معتبرة ".
و من هذا فعلى القاضي و هو يعمل
على تقدير النفقة، أن يراعي تزايد الأسعار في كل ما يتعلق بمشمولات النفقة، مع
اعتبار المتوسط، بما يتماشى مع حالة المنفق المادية، و و أعراف و عوائد البلدة، و
هذا يقودنا للفقرة الثانية.
إن العرف ملاذ يتحاكم إليه، و
الرجوع إليه أمر مقرر في الفقه الإسلامي، و الأخذ به من قواعده الكلية، من باب
تيسير الأمور، و الرفق بالناس، و رفع العنت عنهم. و لذلك فالقضاء مدعو إلى الإحاطة
بواقع الناس و ما يطبعه من خصوصيات، و ما يسوجه من عوائد في الإنفاق لتكون أحكامه
موافقة له.
و في هذا الصدد ذهب الأحناف إلى
أن النفقة غير مقدرة شرعا، و إنما تجب على الزوج اتجاه زوجته، بقدر ما يكفيها من
كسوة و طعام و مشتقاته، و أن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة و الأمكنة، و الأعراف و
العادات.
و قد نصت مدونة الأسرة على هذا
المعيار في مادتها 189 بقولها : " يراعى في تقدير كل ذلك التوسط و دخل الملزم
و حال مستحقها و مستوى الأسعار و الأعراف و العادات السائدة في الوسط الذي تفرض
فيه النفقة ".
و للعرف دور معتبر في تحديد
مشتملات النفقة و تقديرها، لأن ما يعتبر من عناصر النفقة في وسط معين، قد لا يكون
كذلك في وسط اخر، إلا أن التقيد بالوسط الذي تفرض فيه النفقة محل نظر، لأنه قد
يختلف عن الوسط الذي يقيم فيه المستحق لها، خاصة و أن القانون أعطى لطالب النفقة
الخيار في إقامة الدعوى أمام محكمته، أو محكمة المدعى عليه.
يجوز للمحكمة في تقدير النفقة،
و الاطلاع على أحوال الطرفين، أن تستعين بذوي الاختصاص العارفين بالأسعار و
الأعراف حسب الأوساط الاجتماعية، حتى يكون تقديرها على أسس سليمة، و قلما تُفعّل
المحاكم هذه الإمكانية، لأن الاستعانة بالخبرة يتطلب مصاريف من الأولى إهلاكها في
الإنفاق، و أن إنجاز الخبرة يتطلب وجوب حضورية الخبرة و اجالا لذلك، و ما يصاحبها
من تباطؤ في تصريف هذه القضايا، سيما و أن المحاكم مدعوة بصريح القانون إلى
الإسراع فيها.
و في بعض الأحيان، يعاب على
القضاء التقتير في تقدير النفقة، و تكون أحكامه محل تذمر و شكوى، بعلة عدم كفاية
ما تفرضه من مبالغ لتلبية أساسيات الحياة لمستحقها، زد على ذلك أن أغلب دعاوى
النفقة تخص الطبقات الدنيا في المجتمع، من أصحاب الدخول المحدودة، أو التي لا
تتوفر عليه، فقلما يلجأ ميسورو الحال إلى التسوية القضائية لنزاعات النفقة.
و بالتالي فإن اللجوء للخبرة من
شأنه أن ينير طريق القاضي و هو يحاول تقدير مبلغ النفقة، خاصة و أن القاضي ليس
بالضرورة أن يكون ابن الوسط الذي يحكم فيه بالنفقة.
و نشير منوهين بذلك إلى أن
المجلس الأعلى، شدد في أكثر من مناسبة على وجوب بيان قضاء الحكم للعناصر التي
اعتمدها في تحديد النفقة المحكوم بها، داعيا إياها لإجراء البحوث حتى يتأتى له
الإحاطة بمختلف العناصر الواجب رعيها.
لتوفير أكبر حماية ممكنة للحق
في النفقة، قرر المشرع المغربي استثناءها من الخضوع لبعض المقتضيات القانونية،
التي تطبق على باقي الديون العادية، كاستثناء من القاعدة العامة، ذلك أن دين
النفقة أصبح يعتبر من الديون الممتازة، كما قرر عدم سقوطه بالتقادم، و هو محمي من
الحجز عليه لدى الغير و هذا ما يضفي على دين النفقة بعض الخصوصية و هو ما سنتناوله
في النقطة الأولى، على أن المشرع المغربي لم تقتصر عنايته بهذا الدين على
الحماية المدنية، بل شملت أيضا الحماية الجنائية و هذا ما سنحاول توضيحه في النقطة
الثانية، و هاته المقتضيات تشكل مؤيدات قانونية للنفقة.
إن المقصود بدين النفقة في هذا
الصدد النفقة الدائمة، من غير النفقة المؤقتة التي لا تنطبق عليها هذه الخصوصية،
لأنها تفرض بصفة مؤقتة بموجب حكم تمهيدي أثناء نظر الدعوى الأصلية، و لا ينتهي بها
موضوع دعوى النفقة.
و يتمتع دين النفقة بمجموعة من
الخصائص، تجعله متميزا عن غيره من الديون الثابتة، إذ يعتبره المشرع المغربي من
الديون الممتازة و يحميه من التقادم "أولا"، كما أنه دين غير قابل للحجز
لدى الغير و الصلح و المقاصة "ثانيا".
1-إدخال دين النفقة في زمرة الديون الممتازة و حمايته من
التقادم
موازاة مع التعديلات التي
عرفتها مدونة الأحوال الشخصية المنسوخة، أضيف بند إلى الفصل 1248 من قانون
الالتزامات و العقود، بموجبه صارت النفقة دينا ممتازا. و الامتياز حق عيني تبعي لا
يتقرر إلا بنص القانون، اعتبار السبب الدين، و يعطي صاحبه أولوية في التحصيل
مقارنة مع باقي الدائنين، و يقتصر امتياز النفقة على نفقة الزوجة و الأبناء و
الوالدين فقط، دون النفقة التي سببها الالتزام.
و تجدر الإشارة إلى أن هذا
الامتياز مقصور على الأموال المنقولة للملزم بالنفقة، و هو في نفس الرتبة مع مؤخر
الصداق و المتعة، و قد توارى إلى الرتبة الرابعة بموجب المادة 382 من مدونة الشغل،
التي أعطت للأجور و التعويضات الناجمة عن الفصل من العمل امتياز الرتبة الأولى،
خلافا لمقتضيات الفصل 1248 من قانون الالتزامات و العقود.
و إذا كانت القاعدة المكرسة
بموجب الفصل 1245 من قانون الالتزامات و العقود، أن الدائنين الممتازة ديونهم في
نفس الرتبة يستوفونها بالمحاصة، فإن المادة 193 من مدونة الأسرة أوردت ترتيبا
بموجبه تقدم الزوجة فالأولاد الصغار ذكورا و إناثا، ثم البنات، ثم الذكور، فالأم،
فالأب.
ولتعزيز الحماية المقررة لدين النفقة، فقد قرر المشرع المغربي اعتباره من
الديون التي لا تسقط بالتقادم، و الذي يعتبر سببا من أسباب انقضاء الحقوق المتعلقة
بالذمة المالية، و قد نص المشرع على عدم تقادم دين النفقة في المادة 195 من
مدونة الأسرة، التي جاء فيها:" يحكم للزوجة بالنفقة من تاريخ إمساك الزوج عن
الإنفاق الواجب عليه، ولا تسقط بمضي المدة..." فهي إذن لا تسقط بالتقادم.
إن هذا التوجه ليجد سنده في الفقه الإسلامي، وهو القول الراجح عند
جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، حيث اعتبروا أنه متى سلمت الزوجة نفسها
وكانت مستكملة للشروط الموجبة للنفقة، فإن نفقتها تصبح دينا في ذمة الزوج، ترجع به
عليه.
هذا فيما يخص نفقة الزوجة، أما نفقة الأطفال، فيحكم بها من تاريخ التوقف عن
الأداء، وهو يختلف عن تاريخ الإمساك، وقد كان يعبر عنه في ظل مدونة الأحوال
الشخصية الملغاة بالامتناع، الأمر الذي يفهم منه أن الممتنع طولب بشيء ما فأحجم
وتقاعس عن تأديته، و هذا الفهم مجانب للصواب.
هذا و تسقط نفقة الأطفال بمضي المدة، و هذا ما قرره المجلس الأعلى في إحدى
قراراته لما اعتبر أن:" الحكم المطعون فيه لم يكن على صواب حين اعتبر
إمساك طالب النقض عن النفقة امتناعه من أدائها، وحين قضى على الأب بالنفقة عن مدة
سالفة دون أن يثبت أن تلك النفقة قد طلبت منه فامتنع عن أدائها، ويكون بذلك قد خرق
الفصل المشار إليه الذي يكتسي نظرا لوجوده ضمن مدونة الأحوال الشخصية، صبغة النظام
العام".
إن هذا التمييز بين نفقة الزوجة و نفقة الأولاد، يرجع حسب بعض الفقه، إلى
أن المشرع المغربي اتبع في ذلك الفقه الإسلامي، الذي يجعل من نفقة الأولاد مواساة،
بخلاف نفقة الزوجة التي هي عندهم مقابل الاستمتاع.
2- حماية دين النفقة من الحجز لدى الغير و الصلح و
المقاصة
ينص الفصل 488 من قانون المسطرة المدنية على أنه "
يمكن لكل دائن ذاتي أو اعتباري يتوفر على دين ثابت إجراء حجز بين يدي الغير بإذن
من القاضي على مبالغ و مستندات لمدينه و التعرض على تسليمها لديه"، غير
أن المشرع قرر بعد ذلك عدم سريان هذا الحكم متى كان موضوع الحجز عبارة عن نفقات
كيفما كانت الجهة المستفيدة منها، أي سواء تعلق الأمر بنفقة زوجة أو نفقة فرع أو
أصل.
كما ينص الفصل 1102 من قانون الالتزامات و العقود على
أنه " لا يجوز الصلح على حق النفقة، و إنما يجوز على طريقة أدائه، أو على
أداء أقساطه التي استحقت فعلا"، و تتجلى أهمية هذا المقتضى في الحماية التي
يوفرها لمستحقي النفقة، ذلك أنه في كثير من الأحيان يستغل الملزم بالنفقة وضعية
الطرف الاخر، فيجره إلى توقيع صلح على حقه في النفقة.
هذا و لا تقبل النفقة المقاصة مع غيرها من الديون، رغم
أهمية المقاصة كوفاء مزدوج يتحقق عند قيام دينين بذمة شخصين، تتوفر في كل منهما
صفة الدائن و المدين، و قانون الالتزامات و العقود بمنعه المقاصة على الإطلاق إذا
كان أحد الدينين نفقة، يختلف عن المعول عليه لدى المالكية، من جواز المقاصة لقول
الشيخ خليل:" و تجوز المقاصة بدينه إلا لضرر"، و الضرر هنا يتمثل في
التضييق على مستحق النفقة و المشقة التي ستحصل له بحرمانه من النفقة، و لذلك يرى
بعض الفقه أنه متى تم التمسك بالمقاصة، أمكن اعتمادها لأن الفقه المالكي أولى
بالتطبيق من قانون الالتزامات و العقود.
و من هنا نلمس كيف أن المشرع المغربي، قد وفر
مجموعة من الاليات لحفظ حق صاحب النفقة من الضياع، و يتضح حرص المشرع على هذه
الحماية لما أدخل الإمساك العمدي عن أداء النفقة في خانة الجرائم المنصوص عليها
جنائيا، و هذا يجرنا للحديث عنه في الفقرة الموالية.
إيمانا من المشرع المغربي بالدور الذي تقوم به النفقة في
الحفاظ على استقرار الأسرة و تماسكها، نظرا لأنها تشكل أحد الالتزامات التي تنبني
عليها الأسرة، و المفروضة على الزوج في الأصل، فقد عزز حمايتها بإقراره عقوبات
زجرية، و تجريمه الإمساك العمدي عن أدائها، و هذا ما سنتناوله في
"أولا"، على أنه لابد من توفر القصد الجنائي في الممتنع عن الأداء، و
تشكي المتضرر من هذا الامتناع و هو المنفق عليه و هذا ما سنحاول ملامسته في
"ثانيا".
1- تجريم الإمساك العمدي عن أداء النفقة المحكوم بها
تنص المادة 202 من مدونة الأسرة على أن " كل توقف
ممن تجب عليه نفقة الأولاد عن الأداء لمدة أقصاها شهر دون عذر مقبول، تطبق عليه
أحكام إهمال الأسرة ".
و قد عمل المشرع على حماية حقوق الأبناء، ففي هذه المادة
يعتبر التوقف عن الأداء لمدة أقصاها شهر، إهمالا للأسرة يستدعي تطبيق أحكام
القانون الجنائي.
إن موقف المشرع المغربي بشأن تجريم الإمساك العمدي عن
أداء النفقة، نلمسه من أنه مهما كانت فعالية الحماية القانونية للنفقة، فإن
مقتضيات مدونة الأسرة و قانون المسطرة المدنية ذات الصلة بها، غير كافية لضمان
نجاعتها لسبب أنها تفتقد لخاصية الردع، و من ثم كان لزاما أحيانا الاستعانة بأحكام
القانون الجنائي لكفالتها.
و هكذا إذن، فالذي يتوقف عن الإنفاق غلى الأبناء، سواء
كان أبا أو غيره من الملزمين بالإنفاق عليهم كالأم أو الوصي أو غيرهم، و دام هذا
التوقف شهرا، فله إما أن يثبت عذرا مقبولا لهذا التوقف، و بالتالي ليس تهربا أو
توقفا عن سوء نية، و إلا فتطبق عليه أحكام إهمال الأسرة المنظمة في فصول القانون
الجنائي.
إنه من خلال قراءة ما جاءت به مدونة الأسرة في
مادتها 202، يتضح أن التجريم لا يشمل إلا نفقة الأولاد، غير أنه يشمل كذلك
نفقة الزوجة و الأبوين، دون النفقة التي مصدرها الالتزام، و لا يحق للقضاء الزجري
استعمال القياس للعقاب عن حالة الامتناع عن أدائها.
2- ضرورة توفر القصد الجنائي في مُهمِل الأسرة و تشكي
المُهمَل
تعتبر جريمة إهمال الأسرة من الجرائم العمدية التي تقوم
على شرط أساسي هو توافر النية الإجرامية لدى الفاعل، و المتمثلة في انصراف إرادة
الجاني إلى تحقيق الفعل المكون للجريمة بجميع عناصره المحددة قانونا، كما يتطلب
ارتكاب الفعل نية خاصة أو تحقيق غاية معينة.
و يشترط لتحقق القصد الجنائي، أن يكون عدم التنفيذ
إراديا، بحيث لديه من الموارد لأداء ما بذمته من نفقة، أو تحايل ليصيح معسرا، و مع
ذلك فإن النية الإجرامية في هذه الحالة تفترض إلى أن يثبت العكس، تابعة في ذلك
مبدأ أن الملاءة مفترضة إلى أن يثبت العكس.
كما تتوقف المتابعة على وجوب تقديم الشكاية من جانب
المحكوم له، و ضرورة إعذار المحكوم عليه، و إمهاله من طرف الضابطة القضائية لعله
يثبت حسن نيته. كما أن قضاء العقوبة لا تأثير له على استحقاق النفقة، و لا ينجم
عنه سقوطها.
و بما أن جرائم الأسرة، تعتبر من الجرائم التي تتوقف
المتابعة من أجلها على تقديم الشكاية، فإن سحب هذه الأخير يؤدي إلى إيقاف
المتابعة.
على أنه إذا لم تُوقّف المتابعة، فإن العقوبة المقررة
لهذه الجريمة، الحبس من شهر إلى سنة، و الغرامة من 200 إلى 2000 درهم، أو بإحدى
هاتين العقوبتين، و في حالة العود يكون الحكم بالحبس حتميا.
تتمحور هذه الأحكام الخاصة حول نفقة الزوجة، و نفقة
الأولاد، و نفقة الأقارب، و نفقة بالالتزام.
تعتبر الزوجية السبب الأول في
وجوب النفقة وذلك طبقا لما جاءت به مقتضيات المادة 187 من مدونة الأسرة المغربية،
ووجوب النفقة للزوجة ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة الإسلامية لقوله
تعالى:" وعلى المولود رزقهن وكسوتهن بالمعروف" بحيث دلت هذه الآية
على ان الملزم بالنفقة هو المولود له وهو الزوج، ذلك أن الأبناء ينسبون إليه، أما
الواجب رزقهن وكسوتهن هنا، أي من تجب لهن فهن الوالدات أي الزوجات .
وأما السنة النبوية فمنها قول
الرسول (ص) في حجة الوداع: " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
أما الإجماع فلقد أجمع الفقهاء
منذ عصر النبي (ص) حق عصرنا هذا، على أن نفقة الزوجة على زوجها واجبة بالدخول بها،
وذلك قياسا على لقواعد العامة بأنه من حبس لحق عيره، فنفقته واجبة عليه، فالموظف
مثلا حسب نفسه لخدمة الدولة فحق له أن ينال ما يكفيه وأهله، وكذلك الشأن بالنسبة
للزوجة التي حبست نفسها للقيام على رعاية البيت والاهتمام بشؤونه منذ أن حبست
نفسها عن الزواج بغير زوجها، فوجبت لها النفقة.
ومن هنا، فإن سبب استحقاق
الزوجة النفقة على زوجها هو جزاء احتباسها لحقه ومنفعته، لأن عقد الزواج متى وقع
صحيحا صارت الزوجة حلالا للزوج، ولا يحل لغيره أن يستمتع بها، وذلك صيانة لنسب
أولاده عن الاختلاط، وأن تقوم بالمقصود من الحياة الزوجية من تربية الأولاد ورعاية
شؤون البيت.
هذا ولكي تجب النفقة على الزوجة
لا يكفي بيان أسباب وجوبها، بل لابد من توفر شروط أخرى، المتمثلة في: أن تكون
الزوجة مطيقة للوطئ وأن لا يكون أحد الزوجين مشرفا على الموت، وأن يكون عقد الزواج
صحيحا.
فبالرجوع إلى الفقه الحنفي نجد
أنه حدد شروط وجوب نفقة الزوجة على زوجها في أن تسلم نفسها إلى الزوج أو تظهر
استعدادها لذلك بحيث لا تمنع نفسها منه إذا طلبها، وأن تكون الزوجة صالحة للدخول
بها، وألا تفوت حق الزواج في الاحتباس بدون مبرر شرعي.
أما الفقه المالكي فقد ميز بين
الشروط التي توجب النفقة على الزوج قبل الدخول وبعد الدخول بالزوجة.
ففيما يخص شروط وجوب النفقة على
الزوجة قبل الدخول أي البناء فتتجلى في أن تكون الزوجة مستعدة للدخول بها، وهذا
الاستعداد يظهر بدعوة الزوجة زوجها إلى الدخول بها، فإذا لم يتم ذلك ومضت مدة بعد
العقد، لا تجب لها النفقة في هذه المدة وأن تكون الزوجة صالحة للدخول بها، وكذلك
يجب أن يكون الزوج بالغا، ثم ألا يكون أحد الزوجين مريضا مرضا شديدا.
أما الشروط التي توجب النفقة
بعد البناء فهي أن يكون الزوج موسرا، أي يقدر على الإنفاق على زوجته بكسبه أو
ماله، فإن كان معصرا فلا تجب عليه النفقة مدة إعساره وأن تكون الزوجة صالحة للدخول
بها، ثم ألا يفوت حق الزوج في الاحتباس والمالكية بهذا الشرط يتفقون
مع الأحناففي وجوب النفقة إذا كان فوات الاحتباس بمبرر شرعي، كما يوافقون في عدم
وجوب النفقة إذا كان فوات الاحتباس بدون مبرر شرعي من جهة الزوجة.
وبالرجوع إلى مقتضيات المادة
194 من مدونة الأسرة المغربية فقد حدد المشرع المغربي هو كذلك وجوب النفقة
الزوجة على زوجها بمجرد البناء أو إذا دعته إلى البناء، فبمجرد هذه الدعوة تستحق
النفقة.
والواضح من خلال هذه المادة أنه
اكتفى باشتراط العقد دون التنصيص على ضرورة أن يكون صحيحا، مما يفيد أن الزوجة
المعقود عليها بعقد فاسد تستحق النفقة.
وما يعزز ذلك ما نص عليه المشرع
في المادة 64 من مدونة الأسرة، التي قررت أن الزواج الذي يفسخ لفساده، لا ينتج أي
أثر قبل البناء، وتترتب عنه بعد البناء آثار العقد الصحيح إلى أن يصدر الحكم بفسخه
ولعل من أبرز آثار العقد الصحيح وجوب النفقة.
وبالرجوع إلى الأحكام القضائية
الصادرة عن القضاء المغربي، يتضح بأن هذا الأخير لا يبحث فيما إذا كان عقد الزواج
صحيحا أم فاسدا، وإنما كل ما يتطلبه هو التأكد من أن "... علاقة الزواج
قائمة بين الطرفين بمقتضى عقد زواج مؤشر عليه من طرف قاضي التوثيق...
بتاريخ....."، وهو بذلك يساير ما ذهب إليه المشرع المغربي في المادة 194 من
مدونة الأسرة.
فإذا تحققت الشروط السابقة
الذكر فإن نفقة الزوجة تصبح نتيجة لذلك واجبة على الزوج، ولا يمكنه التحلل منها
إلا بالأداء أو غيرها من أسباب سقوط النفقة التي كانت تحددها مدونة الأحوال
الشخصية الملغاة في المادتين 122 و 123، حيث جعلت في الأولى سقوط النفقة يتم إما
بالإبراء أو بوفاة الزوج أو بخروج المطلقة رجعيا من بيت عدتها بدون عذر ولا رضى
زوجها.
أما الثانية فإنها تحدثت عن النشوز كسبب موقف للنفقة، حيث ميزت فيه بين
نشوز الحامل وغير الحامل، واعتبرت أن نشوز الأولى لا يسقط نفقتها كما أن نشوز
الثانية لا يسقط نفقتها، لكنه يؤدي إلى إيقافها إذا حكم عليها بالرجوع لبيت
الزوجية وامتنعت؛ وفي ذلك قرار المجلس الأعلى: " أن نشوز الزوجة بامتناعها عن
الرجوع إلى بيت الزوجية الثابت بالحكم بالرجوع وبمحضر الامتناع يعطي للقاضي الحق
في إيقافه النفقة".
لكن مدونة الأسرة في المادة 195
استبدلت حكم سقوط النفقة بحكم إيقافها وذلك بقولها: " يحكم للزوجة بالنفقة من
تاريخ إمساك الزوج عن الإنفاق الواجب عليه، ولا تسقط بمضي المدة إلا إذا حكم عليها
بالرجوع لبيت الزوجية وامتنعت" وهذا مذهب جمهور الفقهاء إذ لا يعقل أن ترفض
الانصياع لحكم القضاء ورغم ذلك يلزم زوجها بالإنفاق عليها.
وهكذا فإذا امتنعت الزوجة عن
معاشرة زوجها أو تركت بيت الزوجية بدون مبرر شرعي وامتنعت بدون حق عن الانتقال إلى
بيت زوجها، فإنها تعتبر في هذه الحالة ناشزا، والنشوز هو معصية الزوج مأخوذ من
النشاز، أي الارتفاع فكأن الزوجة ارتفعت وتعالت عما اوجب الله من طاعة زوجها،
وبالتالي تسقط عنها النفقة، ولكن بشرط ألا تكون الزوجة الناشر حاملا، لأن مدونة
الأسرة جعلت الحمل مانعا من إيقاف النفقة ولو كان زواجها منتهيا بطلاق: وقد قضى
المجلس الأعلى في هذا الصدد : " تسقط نفقة الزوجة لعدم رغبتها في الرجوع إلى
بيت الزوجية، وذلك بعد مرور المدة التي حددتها المحكمة.
وتجدر الإشارة إلى أن الزوجة
التي تمتنع عن تنفيذ الحكم الصادر بالرجوع إلى بيت الزوجية، لا يمكن أن يطبق في
حقها الإكراه البدني، وذلك تطبيقا لمقتضيات الفصل 637 من قانون المسطرة الجنائية.
وكذلك لا يحق للزوج المطالبة
بالتعويض عما لحقه من تصرف الزوجة من ضرر مادي ومعنوي، غير أن له الحق في إيقاف
النفقة الواجبة عليه .
كما أن نشوز الزوجة لا يفتح
أمام الزوج حق المطالبة بالغرامة التهديدية على الزوجة الممتنعة عن الرجوع إلى بيت
الزوجية.
وهذا ما أكده قرار صادر عن
استئنافية البيضاء بتاريخ 19-04-1984 تحت عدد 506 في الملف الشرعي عدد 8889 بحيث
ان نشوز الزوجة لا يفتح أمام الزوج سوى حق طلب إيقاف النفقة -إسقاطها حسب المادة
195 من مدونة الأسرة-، دون الحكم عليها بغرامة تمهيدية اعتبارا للطبيعة التعـويضية
لهذه الأخيرة .
وكذلك الأمر الصادر عن قاضي
الأمور المستعجلة بابتدائية القنيطرة تحت عدد 320 بتاريخ 23-03-1999 وحيث يستشف من
أحكام مدونة الأحوال الشخصية أنه لا يمكن حصول الزوج على تعويض مادي من زوجته الناشز
إذ أن ما تقرره المادة 123 هو فقط إمكانية طلب إيقاف النفقة- إسقاطها حسب المادة
195 من مدونة الأسرة المغربية ومادام طلب الحصول على التعويض من الزوجة الناشز
مستبعدا، فإن طلب تحديد الغرامة يصبح غير مبرر.
لكن الجديد الذي جاءت به مدونة
الأسرة في فقرتها الأولى من المادة 196 بإبراز حق المطلقة رجعيا في النفقة
دون السكنى في حالة انتقالها من بيت عدتها دون موافقة زوجها أو دون عذر
مقبول.
بينما المدونة السابقة في الفصل
122 كانت تقضي بسقوط حقها في النفقة، ونعم ما قررته مدونة الأسرة ذلك أن المطلقة
رجعيا لا تزال زوجة لمطلقها مادامت في عدتها، وهي محظور عليها، كما هو معلوم أن
تتزوج إلا بعد انقضاء عدتها، ومن تـم فإنـها تستحق نفقتها إلى حين انتهاء عدتها .
أما سقوط حقها في السكنى
المفروضة على مطلقها إذا انتقلت من بيت عدتها فواضح ، إذا لم يبق موضوع لإلزام
مطلقها بإسكانها، والحال أنها قد غادرت بيت عدتها الذي كانت تسكن به من تلقاء
نفسها وبدون رضا مطلقها.
وبالنسبة للمطلقة طلاقا بائنا
فإن مدونة الأسرة نصت في الفقرة الثانية من نفس المادة 196 على أنها إذا
كانت حاملا فإن نفقتها تستمر حتى تضع حملها، وإذا لم تكن حاملا فإنها لا تستحق
النفقة- وإنما تستحق السكنى إلى انتهاء عدتها.
أما المدونة السابقة فإنها لم تتعرض لا لحكم نفقتها، ولا لحكم سكناها، فسدت
مدونة الأسرة هذه الثغرة.
بالإضافة إلى الزوجية من
الأسباب الموجبة للنفقة، وطبقا لما نصت عليه المادة 197 تجب النفقة على الأقارب
على الأولاد للوالدين وعلى الأبوين لأولادهما
فبالرجوع إلى مقتضيات المادة
198 من مدونة الأسرة المغربية نجد أن المشرع المغربي اختص الأب بوجوب النفقة عليه
لأولاده، وحدد كذلك مدة استمرار الإنفاق على الأولاد ذكورا أو إناثا إلى حين
بلوغهم سن الرشد، أو إتمام الخامسة والعشرين بالنسبة لمن يتابع دراسته، في حالة
كونهم ذكورا، أما إذا كن إناثا فإن نفقتهن تستمر إلى أن يتوفرن على الكسب، أو تجب
نفقتهم على أزواجهن.
أما إذا كان للأب أبناء- ذكور
أو إناثا- بهم إصابة تعجزهم عن الكسب- فإن هذه الإصابة والإعاقة عن الكسب تكون
سببا لاستمرار نفقتهم على الآباء.
وتجدر الإشارة إلى أن أهم شرط
يتوقف على وجوب النفقة للإبن،وعلى تخلفه حرمانه منها، هو ضرورة ثبوت نسبه من
المطالب بالإنفاق، بأن يكون ابنه ولد على فراشه، داخل أمد الحـمل حتى وإن كان
العقد فاسدا ، أو كان الابن ناتج عن حمل في فترة الخطوبة مع توفر جميع الشروط،
المنصوص عليها في المادة 156 من مدونة الأسرة.
لكن كثيرا ما يتم الدفع بنفي
النسب في دعاوي المطالبة بالنفقة، مما يضطر القضاء إلى البحث عن مدى صحة هذا
الإدعاء وما إن كان نسب الابن ثابتا أم لا قبل الفصل في دعوى النفقة.
وحفاظا على النسل الذي يعتبر
المقصد الأساسي التي جاءت به مدونة الأسرة المغربية، فإن المشرع من خلال مقتضيات
المادة 220 من نفس المدونة، فإنه يتم تطبيق على من تجب عليه نفقة الأولاد في حالة
توقفه عن النفقة لمدة أقصاها شهر دون عذر مقبول جنحة إهمال الأسرة المنصوص عليها
في القانون الجنائي من المواد 479 إلى 483 .
هذا وقد يصبح الأبناء في بعض
الحالات هم الملزمين بالإنفاق على آبائهم، كما لو كانوا ميسورين، ووالديهم غير
قادرين على الكسب سواء لمرضهم أو لكبر سنهم، ولا يتوفرون على ما ينفقون به على
أنفسهم، لكن يشترك الاستحقاق الوالدين للنفقة أن يكون الولد على الإنفاق وليس
عاجزا عن ذلك .
وتجدر الإشارة إلى أن نفقة
الآباء توزع على الأبناء عند تعددهم بغض النظر عن نصيب إرثهم،فقد تتحمل البنت جزءا
من نفقة والديها أكثر مما يتحمله أخوها إذا كانت أيسر منه .
وتطبيقا لما جاءت به المادة 204 من مدونة الأسرة فإنه : " يحكم بنفقة
الأبوين من تاريخ تقديم الطلب"، أي أن النفقة على الأبوين لا تتقرر حسب الفقه
بحكم القانون، ولو توفر شرط الفقر في الأبوين وشرط القدرة في الولد، وإنما يتعين
أن يضاف إلى ذلك صدور حكم قضائي بها.
كما تجب النفقة بالإضافة إلى
سببي الزوجية والقرابة بالالتزام، فقد نصت مدونة الأسرة في المادة 205 منها على
أنه : " من التزام بنفقة الصغير صغيرا كان أو كبيرا لمدة محدودة، لزمه ما
التزم به، وإذا كانت لمدة غير محدودة اعتمدت المحكمة على العرف في تحديدها
والالتزام في الاصطلاح القانوني
رابطة بين شخصين او طرفين أحدهما دائن والآخر مدين يترتب بمقتضاها على الطرف
المدين" الملتزم" تجاه الطرف الدائن " الملتزم له" الوفاء
بالتزامه.
وبالتالي فالأصل في الالتزام
بنفقة الغير أن تكون مدة الالتزام محددة وفي هذه الحالة على الملتزم أن يؤدي ما
التزم به، أما إذا كانت مدة التزام غير محددة، فإن القاضي يحدد هذه المدة ويعتمد
في تحديده على العرف، وقد صدر في هذا الشأن قرار صادر عن محكمة الاستئناف
بالربـاط تـحت عدد 4155 بتـاريخ 28-2-1950 بخصوص التعهد الذي يقطعه على نفسه الأب
الطبيعي باني تكفل بحاجيات الطفل، لا يرجع سببه إلى رابطة البنوة التي تجمعه بهذا
الطفل بل إلى التزام الطبيعي المتفرع عن واجب يفرضه الضمير، إن هذا التزام ليس غير
مشروع ولا هو مخالف للآداب العامة.
وبذلك نستشف على أن الالتزام بنفقة الغير جاء مطلقا ليشمل الغير
القريب والغير البعيد لأن التزام هنا قصد به مساعدة هذا الغير من الإنفاق على
نفسه.
يتميز موضوع النفقة بكثرة الاشكاليات التي يطرحها على أرض الواقع، و الجدة
في هذه الاشكاليات، و نظرا لعدم اتساع المقام لبسط كل الاشكاليات المرتبطة
بالنفقة، فإننا سنقتصر في هذا المبحث على دراسة الإشكاليات المرتبطة بأساس مساهمة
الزوجة في الانفاق، ثم ننتقتل لاشكالية قصور وسائل الإثبات المنصوص عليها في مدونة
الأسرة، و نختم بهزالة المبالغ المقررة في إطار صندوق التكافل العائلي.
المطلب الأول:
إشكالية مساهمة الزوجة في الإنفاق
إن
المغرب شهد تطورات في مجالات مختلفة سواء على المستوى الاجتماعي وكذا الاقتصادي
خاصة، شملت كل مكونات المجتمع، كما همت مجال الأسرة، بحيث أنه ثم تجاوز التقسيم
التقليدي للأدوار بين الزوجين، إذا لم يعد الزوج يتحمل تكاليف الأسرة المادية،
والزوجة ينحصر دورها في العمل المنزلي، بل تحولت المرأة إلى فاعل اقتصادي، الشيء
الذي أدى إلى تغيير دور المرأة داخل الأسرة، وهذه النظرة أصبحت مبنية على المساواة
بين الجنسين.
ومن ثم
سنشرع بالحديث عن مبدأ المساواة بين الجنسين كأساس لمساهمة الزوجة في الإنفاق في
أولا للانتقال إلى ثانيا للتطرق لإلزام الزوجة بنفقة الأبناء في حالة إعسار الزوج.
اعتمد
المشرع المغربي في إصداره لمدونة الأسرة الجديدة على آليات قانونية تحكمها رؤية
معتدلة، تسعى إلى تحقيق الوسطية في مراعاة الحقوق والواجبات لدى المواطن، وأيضا
التوازن بين الرجل والمرأة واحترام المرجعية الإسلامية والدولية.
فالمطلع
على نصوص مدونة الأسرة، يلاحظ سيطرة مبدأ المساواة بين لجنسين في صياغتها وهذا ما
نلاحظه من خلال مقتضيات المادة 4 من مدونة الأسرة بحيث أصبحت الأسرة تحظى برعاية
الزوجينوهذا ما تؤكده كل من المادة 51 من مدونة الأسرة، وفي نفس التوجه تؤكد
الفقرة الثالثة من المادة 54 من مدونة الأسرة على أنه للأطفال على أبويهم الحقوق
التالية: النسب والحضانة والنفقة.....
ومن
ثم نستشف على أن الزوجة أصبحت هي الأخرى ملزمة بالمشاركة في
الاتفاق على الأسرة، مادامت هي الأخرى مسؤولة عن رعايتها، خاصة أنه في الوقت
الحاضر أصبح العديد من النساء يلجن سوق الشغل بشكل واسع، إذ أصبحن يشكلن نسبة هامة
من اليد العاملة في مختلف الميادين الاقتصادية والصناعية والسياسية.
والواقع
يؤكد مساهمة النساء العاملات في تحمل الأعباء المادية للأسرة، دون أن يكون هناك نص
قانوني يلزمهن بالمساهمة في الإنفاق العائلي، الأمر الذي يجعل هذه المساهمة، تأخذ
شكل التبرعات مادام المشرع لا ينص عليها صراحة، إذا الملزم بالإنفاق قانونا هو
الزوج وإن كان الواقع غير ذلك.
لذلك
يرى بعض الفقه إلى وجوب الاعتراف للزوجات العاملات اللائي يساهمن فعلا في الإنفاق
بهذا الدور، حتى يسعرن بأهميتهن وبقيمة دورهن الإيجابي داخل الأسرة، وذلك عن طريق
النص صراحة على مساهمتهن في تحمل الأعباء المادية للأسرة إلى جانب الزوج، كما يجب
اعتبار العمل المنزلي بالنسبة للنساء الغير العاملات بمثابة مساهمة مادية في
لإنفاق، لأن العمل داخل البيت لا يقل أهمية عن العمل خارجه فكلاهما يساهم في تنمية
الوضعية الاقتصادية للأسرة.
إن
المشرع المغربي تطرق من خلال مقتضيات مدونة الأسرة الحالية في المادة 199 عن عجز
الأب إما كليا أو جزئيا عن الإنفاق على أولاده، وكانت الأم موسرة وجبت عليها
النفقة بمقدار ما عجز عنه الأب، وبالتالي فإذا كان الزوج غير قادر على الإنفاق
لإعساره أو لفقره، فلا تجب عليه النفقة ولا السكنى، بدليل قوله تعالى:"لا
يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " وإنما تلزم المرأة الموسرة أو الغنية
بالإنفاق على زوجها وأولادها مدة إعسار الزوج في حدود الخصاص إذا كان العجز جزئيا،
أو الإنفاق إذا كان العجز كليا .
ويقصد
بيسر الأم، قدرتها على الإنفاق على أولادها من مال تتوفر عليه أو من دخل تحصل عليه
دوريا أو موسميا، فهي مثل الأب لا تجبر على العمل لتنفق على أبنائها .
لكن
الإشكال الذي يطرح بهذا الخصوص، هو عندما يكون الملزم بالنفقة معسرا وامتنع عن
أداء النفقة، فهل في هذه الحالة تطبق عليه أحكام إهمال الأسرة؟
فمن
الناحية العملية نجد أنه بمجرد ما يصدر الحكم على الملزم بالنفقة، ويتم تبليغه
إليه وتحرير محضر الامتناع عن الأداء في حقه ومحضر عدم وجود ما يحجز،يتم إخضاع
الملزم بالنفقة لمسطرة إهمال الأسرة، وذلك على الرغم من تصريحه أنه معسر ولي في
استطاعته الإنفاق، لكن القضاء بطيعة الحال يأخذ بعين الاعتبار عجز الملزم بالنفقة
ويقدرون هذه الأخيرة بمبالغ هزلية تتلاءم وضعية الاقتصادية.
جاء خطاب جلالة الملك محمد السادس لسنة 2003، حاثا فيه على إحداث صندوق
التكافل العائلي كمؤسسة بديلة عن الزوج المعسر في أداء النفقة.
و بعد ثماني سنوات تقريبا بدأ العمل بصندوق التكافل العائلي والذي ستستفيد
منه النساء المطلقات اللواتي تعذر عليهن الحصول على النفقة، لأي سبب كان، و بشروط
محددة.
إن مؤاخذاتنا على مخصصات صندوق التكافل العائلي تتعلق بهزالة المبلغ المخصص
للفرد الواحد و الذي لا يتجاوز 350 درهم، بل و حتى في حالة تعدد أفراد الأسرة
الواحدة، فيشترط ألا يتجاوز 1050 درهما لكل الأسرة وهذا فيه إجحاف حقيقي للأسر
المعوزة، خاصة و أن من يلجأ لفك منازعات النفقة قضاء هم قليلوا أو معدوموا الدخل،
فكيف يمكن لأم معوزة أن تعيل أسرة عدد أفرادها كبير ب 1050 درهما؟
و هنا نحيل على العرض المخصص لصندوق التكافل العائلي.
من
الملاحظ أن الإثبات في دعوى النفقة يعتريه قصور في مدونة الأسرة المغربية (أولا)،
لكن القضاء سد هذا الفراغ التشريعي بالاعتماد على الفقه الإسلامي، وهذا ما سنحاول
دراسته في ثانيا من هذه الفقرة.
إن
المطلع على نصوص مدونة الأسرة، يلاحظ بأنها لا تحتوي على طرق الإثبات وإن كانت قد
تعرضت لبعضها كما هو الحال بالنسبة لإثبات الزواج المادة 16 وإثبات الثوار المادة
34، وكذلك كل ما تيعلق بإثبات النسب (المادة 153) وتم إغفال طرق الإثبات في دعاوى
النفقة.
لقد
حاول القضاء سد الفراغ التشريعي فيما يخص الإثبات في دعاوى النفقة، عن طريق
الاجتهاد والبحث عن الحل المناسب في قواعد الشريعة الإسلامية، ومواقف الفقه
الإسلامي،باعتبارهما المصدرين الأساسيين لمدونة الأسرة، إن نظرة الفقه الإسلامي
لإثبات نفقة الزوجة تختلف من حالة إلى أخرى، فالإثبات أثناء قيام العلاقة الزوجية
هو غير الإثبات بعد الطلاق، وإن كان الإثبات في هذه الحالة الأخيرة لم يعد يطرح
إشكالا بعد دخول مدونة الأسرة حيز التطبيق، ذلك أن أسباب هذا الإشكال كان يرتبط
بمدى علم الزوجة بالطلاق، والذي كان يتم أمام العدول ودون علم الزوجة في بعض
الأحيان، الأمر الذي تعتبر مع مدونة الأسرة التي جعلت الطلاق خاضع لإذن المحكمة
والتي تحرص على ضرورة حضور الزوجة وإعلامها بذلك عن طريق التبليغ الشخصي.
كما أن
الإثبات عند قيام العلاقة الزوجية يختلف من حالة حضور الزوج إلى حالة غيابه.
فالمقرر
في الفقه الإسلامي، أن الزوجة إذا رفعت دعوى بالنفقة للحاكم تدعي فيها أن زوجها
غاب عنها ولم يترك لها مال تنفق منه، ولم يرسل لها شيء وعاد الزوج وادعى أن
ترك لها نفقتها أو أرسل إليها فالمعتمد عندهم أن القول قوله بيمينه، إلا إذا رفعت
أمرها للحاكم في غيبته، ولم يجد الحاكم للزوج مالا يفرض فيه النفقة، فأذن
لها بالإنفاق على نفسها ورضيت وأوجد لها مالا وسمحت ببيعه ورضيت أن تسلفه نفقتها،
فيعتبر حينئذ قولها بيمينها من تاريخ الرفع لا من تاريخ السفر.
والقضاء
المغربي يطبق بخصوص إذا كانت الزوجة خارج بيت الزوجية نفس القاعدة فقد قضى المجلس
الأعلى بأنه مادام أن الزوجة التي تطالب بالنفقة كانت بمنزل والديها مع أبنائها
ولم يثبت الزوج ادعائه الانفاق فإن القول قولها مع يمينها وأن المحكمة لما اعتبرت
قول الزوج مع يمينه ورفضت دعوى النفقة تكون قد تجنبت الصواب مما يعرض قرارها
للنقض".
وبالتالي
فإن الفقه يقرر أن القول قول الزوج بيمينه إذا كان حاضرا في البلد، كما يجب أن
تكون الزوجة في حوزته بأن يثبت تواجدها ببيت الزوجية وهذا ما سارت عليه محاكم
الموضوع، فقد جاء في حكم صادر عن قسم قضاء الأسرة بالناظور أنه " وحيث أجاب
المدعى عليه بأنه يقوم بواجب الإنفاق على زوجته وابنه خلال المدة المطلوبة، وحيث
إن المدعية تقرر بأنها تتواجد ببيت الزوجية وطالما أن المدعي عليه يدعي الإنفاق
فإنه تطبيقا للقواعد الشرعية فإن القول قول الزوج بيمينه".
وقد
يحدث أن تكون الزوجة مقيمة ببيت الزوجية والزوج خارجه، حيث اعتبر القضاء في هذه
الحالة أن القول قول الزوجة بيمينها وهو ما يظهر من خلال حكم صادر عن قسم قضاء
الأسرة بفاس والذي جاء في : "وحيث مادام أن المدعى عليه أمام إقراره بأنه لا
يقيم مع المدعية ببيت الزوجية، وفق ما يستفاد من مقاله المضاد الرامي إلى الحكم
عليها بالالتحاق به بسكنه بتازة الوارد بمقاله المضاد، ومادام أنه ادعى الإنفاق
دون أن يثبته مما يبقى معه القول قول المدعية بيمينها.
والخلاصة أن الإثبات في النفقة يتميز بنوع من الخصوصية، ذلك أن اليمين في
الأحوال الشخصية والقضايا الشرعية تحسم في النزاع، وتقيد المحكمة من حيث أثرها
وتلزمها بالحكم بمقتضاها فهي ليست بيمين حاسمة، لأنها توجه تلقائيا من طرف المحكمة
ولا يوجهها أحد المتخاصمين للآخر ولا هي بيمين متممة لأنها لا توجه لتكملة دليل
ناقص.
و ختاما يمكن القول أنه بعدما حاولنا الوقوف عند أحكام
النفقة في ضوء مدونة الأسرة، و بسط بعض مظاهر الحماية التشريعية لها، فإن نجاعتها
أو عدمها أحيانا ترتبطان بأمور لا صلة لها بمقتضيات القانون و لا أحكام القضاء،
كالمعاكسات و العناد من جانب الخصوم و الذي يرجع بالأساس إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية والسياسية بسبب الأزمات المتزايدة التي يعرفها العالم من
حولنا،بفعل سوء التسيير وانعدام الثقة بين الأفراد والمؤسسات،
وفشل النظام التربوي في خلق فرص شغل وأجيال صالحة وواعية ومسلحة بثقافة علمية جيدة، و
مدى انخراط جهات أخرى في تفعيل النفقة - كالجمعيات مثلا -، فبعض
الأحكام و ربما أغلبها تعرف التلكؤ و التباطؤ في التنفيذ، و قد تكون إجراءات
التنفيذ غير مثمرة بالجملة لكل هذا يجب التفكير في اليات جديدة لمعالجة هذه
الظاهرة، على غرار ما هو معمول به في بعض القوانين المقارنة، كالقانون التونسي
الذي أحدث صندوقا لضمان النفقة.
الأقسام:
السداسي الثالث S3