صفحة من التاريخ تتكرر، عنوانها موت ومرض ونقص وضعف، نفس الأسباب وتختلف الأسامي؛ إيبولا، إنفلونزا الخنازير، طاعون، كورونا. تتالت التحذيرات ولكن عيب النسيان يطوي ذكريات تهدد مستقبلنا. جائحة فرقت الأسر داخل بيوتهم، وعائلات غدت ترى في قطع الرحم أفضلية، وأصدقاء تغيرت عاداتهم، هي جائحة غيرت سلوكنا بالقوة. نعيش هشاشة تاريخية ليست الأولى من نوعها، لكن الفارق ليس كرونولوجيا فقط، وإنما في سرعة توالي الأحداث وفي نطاق انتشار الوباء. فبالتزامن مع التدفق الدولي للسلع والخدمات، وسرعة انسياب المعطيات المادية والفكرية، أصبح من السهل نقل المواد الخطرة والمحظورة بما فيها غير الخاضعة للرقابة، هذه الأخيرة والتي نجد أخطرها هو الأمراض والأوبئة.
هو وباء علم بالتكتيك الدولي في مواجهته، فاتخذ التنقل الفائق السرعة سبيلا لهزمه المعقمات الزمكانية، وعليه قد انطلق من العالم المتقدم وأمن بذلك سرعة انتقاله للعالم ليعود لنقطة البداية محمولا من قبل طائرات أجنبية عن الدولة التي أنتجته، معلنا تفوقه على المناعة والذكاء البشري. ليس هناك حلول وسط، إما التخلص من الوباء ''الجائحة''[1] أو مواجهة احتمال الإبادة التدريجية لشعب بأكمله. في حينها سيتبادر إلى الذهن خطورة ما نحن مقبلين عليه، ليس الإشكال في الوباء، وإنما المشكل هو في ذكاء الإنسان المتطور الذي أعطى لعدوه الأفضلية.
فارتباطا بالوقائع نستطيع وصف الحاصل من حيث الظاهر بأنه علة مرضية أصابت الإنسانَ ليست متوقفة عنده وإنما تنتقل أسرع مما ينتقل حاملها. ومن حيث الإنسان ككائن طبيعي؛ هو اختبار الطبيعة البيولوجية لمدى قابلية الجسم للتكيف مع الوسط العضوي المرتبط به. تختلف طبيعة النظر للمرض باختلاف زاوية القارئ وباختلاف ذات المحلل. فإلى حين كتابة هذه الأسطر تبقى الأرقام غير محددة على سبيل الإحصاء الكامل، لا من حيث الإصابات أو الوفيات، وتبقى الأرقام في تزايد بشكل يومي. فمن خلال تحليل سريع وسطحي لواقع الحال يمكن القول أن هناك أحداث هامة في التعاطي مع الحدث، وذلك بمستويات مختلفة؛ اجتماعيا، وبالمستوى الحكومي، وعلى الصعيد الدولي.
فإلى حين رواية هذه الأحداث تبقى الأرقام غير محددة على سبيل الإحصاء الكامل، لا من حيث الإصابات أو الوفيات، ويبقى تسجيل زيادة في الأرقام بشكل يومي.
اجتماعيا وبعد أن كان الانتقاد يتمحور حول طريقة عيش الصينيين، وربط السببية بعاداتهم واستهلاكهم اليومي. غَدَى التحدي يواجه كل المجتمعات باختلاف طرق عيشهم، وأنست الظرفية لتوالي الأحداث عموم المواطنين مصدر الخطر، وكان اهتمامهم مرتبط بوقايتهم والاحتماء من الاخطار المحيطة بهم. وتزايد اهتمام الأفراد بمعرفة أعراض الوباء وطرق انتقاله ووسائل الحماية الممكن اتخاذها، وأصبحت مصطلحات طبيعية وعلمية متداولة بين العامة من قبيل حضانة فترة حضانة الوباء.
هناك من وجد في الوباء فرصة ليكون الآمر الناهي خلف عنوان الناصح، وكثرت الآراء واشتد البلاء. ولا ضير في أن يكون هناك توجيه اجتماعي يتم التعبير عنه من قبل أشخاص ذوي قاعدة اجتماعية كبيرة، كل حسب الفئة المستهدفة. لكن في حدود الخطر القصوى سيكون المتحدث الوحيد وصاحب الصوت المسموع هو الصادر عن أصحاب القرار الرسمي، أي رجال السلطة بالمستويات الوطنية والمحلية. فالعامة قد تتغير توجهاتهم واحتياجاتهم، ولا يتأطرون بالمنفعة والمصلحة العامة. ويبقى الأكثر تأثيرا في الأعلى سلطة والذي يتم تلقيه من أكبر قاعدة شعبية في الدولة.
كان التخوف الكبير من ردة الفعل الاجتماعية في المناطق المحافظة من جراء غلق أماكن العبادة[2]، لكن الصدى العام والفكرة المرجحة هو كون الصلاة الجماعية المؤجلة خير من خطر الموت المعجل، وعكس ما كان متوقعا فقد كان الوقع المجتمعي لإغلاق الأماكن العامة كالأسواق والمقاهي والمطاعم، أشد وطأة من إغلاق دور العبادة، وشهدت السلطات عصيان الأوامر من المواطنين لغلق موارد الرزق، في حين لم يعترض المداومين على العبادات الجماعية هذا القرار.
تولدت لبعض المناطق أفكار الخوف الاجتماعي هستيريا التسوق والإستعداد لمواجهة فترة أقل ما يقال عنها أنها سبات شتوي متأخر، لكن الملاحظ غير هذا وفي مثال متطرف لمجتمع متحظر؛ اقتناؤه لمعدات الدفاع/الإبادة. متاجر الأسلحة النارية بالولايات المتحدة الأمريكية تشهد فترة من الذروة في المبيعات لم تسجلها في الأشهر السابقة[3]، وامتد ذلك ليشمل عائلات مناهضة لفكرة تملك السلاح بالمنازل، لننتقل من الخوف الاجتماعي إلى الهلع الإجرامي.
وضعت الحكومات لمختلف الدول تحت اختبار حقيقي، واختلفت آثار الوباء باختلاف مدى قدرة المسؤولين الحكوميين من وضع الإستراتيجيات وتفعيلها وتتبع نجاعتها. فنجد أن دولا أوروبية شهدت آثارا كارثية جعلت حكوماتها تضع إجراءات صارمة تهم المواطنين غير المصابين بالوباء، فإيطاليا شهدت أعلى معدل من الوفيات والمصابين بأوروبا واختلفت قرارات حكومية بدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط من وضع قرارات صارمة جعلت الوباء يتفشى بدرجة تدريجية، وبين حكومات تهاونت في إدراك مدى خطر الوباء، مما جعلها تحصي المئات من الوفيات والإصابات، خصوصا بدول الشرق الأوسط.
فخروج مسؤولين حكوميين بدول عربية، والنداء بحجر صحي ذاتي ينخرط فيه المواطن بشكل تطوعي، وخصوصا بكل من الجزائر ولبنان مبدئيا، أتت بعد إدراك المواطنين عبر وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، أن فرص الوفاة جراء التقاط العدوى تعادل فرص النجاة، ففي كل حالتين أو ثلاث تلفظ حالة أنفاسها معلنة تفوق الوباء.
وفي استدراج لبعض القرارات الحكومية التي تستهدف الحد من انتقال الوباء، فقد تم مبدئيا منع التجمعات التي تفوق الخمسين شخصا، والحجر الصحي للأشخاص القادمين من مناطق شهدت حالات تفشي الوباء، وتعليق الصلوات بالمساجد والكنائس إلى أجل آخر، وغلق المقاهي والمطاعم والملاهي، وتحديد أوقات الخروج للمواطنين والمواطنات، وتحديد أماكن التجمعات التجارية وفرض التزامات صحية بها، إخضاع وسائل النقل والمرافق العمومية للتحديد من حيث العدد ومن حيث شروط السلامة الصحية، وصولا لحظر تجول صحي دائم واشتراط مبرر تجاري أو صحي للخروج من المقار السكنية.
وتم التخفيف من الوقع المادي للوباء على المواطنين، بتقرير حزمة من الإجراءات للتخفيف من بعض تكاليف الحياة العادية، والقيام بتعويض مادي جراء الأضرار الواقعة عن ترك المواطنين لمقار عملهم، كالتي تم إطلاقها من قبل لجنة اليقظة الاقتصادية بالمغرب[4]، والتي تضم أطراف من الوزارات المشكلة للحكومة، وإعفاء المواطنين والمواطنات من أداء فواتير الماء والكهرباء بالبحرين حسب الموقع الخاص باليوم السابع.
ودوليا فلا مكان للخلافات السياسية والتاريخية والدينية، فكل الجهود تنصب في التصدي لعدو مشترك، هناك تخوف من ان يتم استخدام الوباء سلبا للإضعاف من قوة الدول المتخالفة، لكنه احتمال ضعيف نظرا لكونه سلاحا يصعب احتواؤه، وإلى غاية اللحظة لم تتأكد أكاديميا أي من الأطاريح الدالة على المؤامرة الدولية والتحكم في تفشي الوباء، أو أنه فقط حدث عادي لقي تهويلا إعلاميا، ويبقى الإتجاه الواقعي هو الحقيقة العلمية للوباء. والمرجح أن الأسلحة التقليدية والمتطورة ستتوقف مؤقتا إلى حين إيجاد حل للعدوى، وستكتفي الحكومات بالتصدي الداخلي، وإحكام حدودها ومواجهة الخطر لوحدها.
كل المؤشرات تدل على أن التحركات الدولية تفضل الاكتفاء بالحماية الداخلية وغلق الحدود، باستثناء جهود دولية محدودة في التوعية بالأخطار وإجراءات السلامة ورصد التبرعات الدولية من أجل دعم القوى الطبية العاملة، وتخصيص صناديق احتياطية لمواجهة التحديات، لكن كيف ستحصص المساعدات ومن المستفيد منها وما المعايير المستخدمة. ومن جهة أخرى يتم التحذير بدرجة أولى الدول المنتمية ''للعالم الثالث'' من قبل المنظمات الدولية من خطر الوباء.
فالصين كقوة دولية لها من التأثير العالمي ما يوازي تأثير كورونا بالعالم حاليا، وذلك من حيث النطاق واجتياح الأسواق، وكيفية تخطيها لمرحلة الحجر الصحي بنجاح. شهدت في مرحلة سابقة إجلاء العديد من مواطني مختلف الدول من بؤرة تفشي الوباء والضواحي المجاورة، وانتقالها من دولة منفردة ضد الوباء إلى أكبر وجهة عالمية للمعدات اللوجستية في مواجهته، وتمكنت من أن تصبح نموذج ناجح لكيفية التعامل مع الوباء واحتوائه.
السيناريوهات الدولية المستقبلية لمواجهة الوباء متعددة، ففي حالة ما إذا تم التعامل مع الوباء على المدى الطويل، وخلق مناعة اجتماعية بالتدرج مسايرة للمجرى الدولي، وكون الدول منخرطة في انسياب عالمي للسلع والخدمات، إذا ما أرادت التصدير أو الاستيراد أو استقبال أشخاص أو مواد من دول أخرى، فيجب التأكد من أن الدولة المتعامل معها بدورها غير مصابة أو متخلصة من المرض. فيتور التساؤل هل الدولة قادرة على الانغلاق على نفسها، أو الاكتفاء بذاتها لمدة شهر أو شهور معدودة، إذا كان الرد بالإجاب فإلى أي حد ستتمكن الدول من الاكتفاء بذاتها وذلك في كل القطاعات.
ومن جهة مقابلة تبقى الأوساط العلمية مترقبة تأكيد ابتكار لقاح للعودى من قبل المختبرات الطبية الدولية، كمختبر ''شركة CureVa'' بألمانيا، ومختبر Virpath بفرنسا[5]، والتي يتم انتقاد طريقة تنافسها من أجل السبق العلمي، ونيل الأفضلية الفكرية والمادية، في حين أن الظرفية تحتاج توحيدا للجهود، وتبادلا للإخفاقات قبل النجاح بين المختبرات الدولية. الأمر الذي يؤكد تسييس العلوم وسلبيات خوصصة بعض القطاعات ذات الأهمية العالية؛ كقطاع البحث العلمي، أو رفع الدعم عنها من الحكومات المتعاقبة.
[1] https://www.verywellhealth.com/difference-between-epidemic-and-pandemic-2615168 21-03-2020 13:25
[2] من الممكن البناء على كيفية التعاطي الاجتماعي مع قرار غلق المساجد، والتحول البنيوي السيكولوجي للمجتمعات المحافظة، وقوة الجماعات الإسلامية في العالم العربي.
[3] https://www.youtube.com/watch?v=InhSMpH9mXQ 21-03-2020 13:52
[4] https://www.finances.gov.ma/ar/Pages/%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%AC%D8%AF%D8%A9.aspx?fiche=4978 visité le 22-03-2020 13:19.
[5] حسب الموقع الإلكتروني الألماني www.dw.com