يوسف ربحي - دكتور
في الحقوق، وباحث في جرائم تقنية المعلومات الحديثة
التشريع مقياس
حقيقي للتقدم والرقي، وفن تحقيق العدالة والإنصاف، بل إن غايته الأساسية في
المجتمع المعاصر لا تقف عند هذا الحد، وإنما تتجاوز ذلك إلى توجيه الجهود وتكريسها
لتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي 1، وكفالة حقوق الإنسان في شموليتها.
ولعل القانون
الجنائي من أهم مجالات التشريع التي يجب أن تستحضر فيها تلك المقاصد، والذي يجب أن
يحظى بالاهتمام اللائق، وبدوام الإصلاح ليستوعب دوام التغيرات والتطورات
المجتمعية، وفي المقابل يجب أن تكون الإصلاحات خاضعة لقواعد في الصياغة التشريعية
ثابتة ومستقرة ومتفق عليها، وتهيمن على الأحكام التفصيلية وتتحكم فيها، وتضمن
حكامة وجودة النصوص، في إنشائها أو في إصلاحها، وحتى في تطبيقها 2.
وإذا كان تطور
القانون الجنائي هو في نهاية المطاف تقنين لرد فعل المجتمع ضد أي سلوك معادي
لكيانه 3، فإننا عندما نتكلم عن هذا التطور لا بد من
استحضار مبدأ الشرعية الجنائية الذي ترتكز عليه مجمل القوانين العقابية الوطنية
والاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الانسان والحريات الأساسية، بالإضافة إلى مبدأ
التفسير الضيق للقانون الجنائي، الذي يشكل امتدادا طبيعيا لمبدأ شرعية الجرائم
والعقوبات.
هذا، وفي خضم
التزايد المضطرد في ظاهرة جرائم تقنية المعلومات الحديثة في العقدين الأخيرين،
وبظهور طوفان الشبكة المعلوماتية وتوفير انسيابية لمرور البيانات عبر قنواتها في
ظل هذه الصحوة الرقمية، تنامت حدة المخاطر المحدقة بالأشخاص والجرائم الواقعة على
الأموال، وأضحت شبكات ومواقع التواصل الاجتماعي محل تقنين ومراقبة، إما مشددة أو
مرنة، وهي مراقبة تصطدم بمبدأ أساسي من حقوق الإنسان، أي بحرية التعبير، وهو مبدأ
يمتد ليشمل شبكة الأنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي.
وكما هو الحال في
جميع الدول، فقد عرف المغرب انتشار واستفحال جرائم تقنية المعلومات الحديثة، لكنه
بخلاف مجموعة من الدول تأخر تضمين تشريعه الجنائي مقتضيات تتصدى لهذا الصنف من
الإجرام المستحدث، مما دعا الفقه 4 إلى المطالبة بضرورة سن قانون يهم جرائم
تقنية المعلومات الحديثة بمختلف أصنافها. غير أن المشرع اختار مسلكا آخر معاكس لما
طالب به الفقه، مسلك قوامه سن قوانين خاصة مشتتة في الزمان، بعض من هذه القوانين
أدمج بمجموعة القانون الجنائي 5، في حين ألحقت النصوص الأخرى بقوانين مرتبطة
بما هو إلكتروني.
هذا التوجه التشريعي
الذي سلكه المشرع المغربي، تم تكريسه من جديد بالموازاة مع مصادقة المجلس الحكومي
على مشروع قانون رقم 22.20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث
المفتوح والشبكات المماثلة بتاريخ 19 مارس 2020، وهو مشروع القانون الذي تقدم
بمسودته وزير العدل في إطار المبادرات التشريعية للحكومة، والحامل لتوقيعي محمد
حجوي، الأمين العام للحكومة، ومحمد بن عبد القادر، وزير العدل.
هذا المشروع أثار جدلا واسعا بين مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي، وصل حد وصفه
ب"قانون تكميم الأفواه"، و"قانون الحجر الدائم"، وأوصاف أخرى،
تعتبره تقييدا واستهدافا لحرية التعبير بالنظر للمقتضيات التي جاء بها، وهو ما
يمكن اعتباره من أخطر التشريعات التي أقرت على منظومة حقوق الإنسان، كونه يستبيح الحق
في حرية التعبير عن الرأي من جهة، ومن جهة أخرى فإن الجدال احتدم بخصوص طريقة
تمرير هذا المشروع ومحاولة إقراره بسرية، في شرخ صارخ لمسطرة التشريع التي تقتضي
تنزيل المشروع بموقع الأمانة العامة للحكومة بمجرد تسجيله قصد الإطلاع عليه من طرف
المهتمين تكريسا للمقاربة التشاركية في إعداد القوانين وتجسيدا للحق في الحصول على
المعلومة.
وبحسب المذكرة التقديمية،
فإن المشروع يشدد على ضمان حرية التواصل الرقمي عبر شبكات التواصل الاجتماعي
وشبكات البث المفتوح وباقي الشبكات المماثلة، غير أنه يشترط عدم المساس بالمصالح
المحمية قانونا، والإحاطة بمختلف صور الجرائم المرتكبة، لاسيما تلك التي تمس
بالأمن العام والنظام العام الاقتصادي، ونشر الأخبار الزائفة والسلوكات الماسة
بالشرف والاعتبار الشخصي للأفراد، وكذا بعض الجرائم التي تستهدف القاصرين.
غير أن القراءة الأولية لمشروع القانون المتعلق باستعمال شبكات التواصل
الاجتماعي يدحض ما تضمنته المذكرة التقديمية من خلال حديثها عن أن هذا المشروع
يسعى إلى تقوية آليات مكافحة الأنماط المستحدثة من جرائم تقنية المعلومات الحديثة
دون المساس بحرية التواصل الرقمي باعتباره صورة من صور ممارسة حرية التعبير
المكفولة دستوريا، وهو ما يجرنا لإبداء ملاحظات حول هذا المشروع الذي تعتريه
مجموعة من النواقص والاختلالات ذات الطبيعة المنهجية والقانونية والحقوقية نسوقها
في عشر ملاحظات جوهرية يمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: انطلاقا من طبيعة المهام التي تقوم بها الأمانة العامة
للحكومة، وفي إطار اضطلاعها بمهام تنسيق عملية تحضير مشاريع النصوص التشريعية
والتنظيمية والقيام بمهمة تتبع مسار كل مشروع نص قانوني والتحقق من مطابقته لأحكام
الدستور، وتكريسا للمقاربة التشاركية في إعداد القوانين التي تعد بحق أحد أعمدة
الأمن القانوني، فإنه من اللازم على الأمانة العامة للحكومة أن تقوم بنشر مشروع
القانون على موقعها تفعيلا لآليات التشاور العمومي حتى يتسنى للمواطنين ومنظمات
المجتمع المدني وكل المهتمين الاطلاع عليه وإبداء الرأي بشأنه، وهو الشيء الذي لم
يتأتى، مما يمكن اعتباره خروجا عن مسطرة التشريع الاعتيادية، وهو ما يتعارض من
جانب آخر مع المادة 10 من القانون رقم 31.13 المتعلق بالحق في الحصول على
المعلومات 6.
ثانيا: استنادا إلى المادة 13 من الظهير الشريف المحدث للمجلس
الوطني لحقوق الإنسان التي تعهد إليه ببحث ودراسة ملاءمة النصوص التشريعية
والتنظيمية الجاري بها العمل مع المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وطبقا
لمقتضيات المادة 25 من القانون رقم 76.15 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني
لحقوق الإنسان، فإن المجلس بمبادرة منه أو بطلب من الحكومة، يبدي رأيه في شأن
مشاريع ومقترحات القوانين ذات الصلة بحقوق الإنسان. وحيث إن مشروع القانون رقم
22.20 ترتبط مضامينه بالحق في حرية التعبير على وسائط ومنصات وشبكات التواصل
الاجتماعي، فإنه كان من باب أولى إحالته على المجلس من أجل إبداء الرأي والمشورة
بشأنه والبحث في مدى ملاءمة مقتضياته مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان المصادق
عليها من طرف المملكة المغربية.
ثالثا: يحظى الدستور بمكانة متميزة في البناء القانوني
للدولة، حيث تتصدر أحكامه وقواعده مكان الصدارة بالنسبة إلى بقية القواعد
القانونية الأدنى مرتبة منها، وبالرجوع إلى مشروع القانون رقم 22.20 المتعلق
باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة نجد أنه
يتعارض مع البعد الحقوقي الذي حمله متن دستور 11 يوليوز 2011 وعلى وجه التحديد
مبدأ إقرار سمو الاتفاقيات الدولية، وأيضا الفصلين 25 و28 واللذان يكفلان حرية
التعبير بكل أشكالها.
رابعا: على مستوى البناء الهندسي لمشروع القانون يتضح أن
المشرع ومن خلال الباب الثالث المتعلق بالمقتضيات الزجرية بوأ "الجرائم
الماسة بالأمن وبالنظام العام الاقتصادي" مكانة الصدارة، في حين أدرج الجرائم
التي تطال القاصرين في آخر فصل، وهو توجه يثير الريبة والشك من كون أن هذا المشروع
جاء لتوفير غطاء حمائي لكبريات الشركات من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا التوجه منتقد
بالنظر للأولوية الحمائية التي يجب أن يحظى بها الأطفال في الفضاء السيبيراني من
المخاطر التي تحيط بهم والمرتبطة أساسا بجرائم الإباحية الطفولية وبالجرائم
المتعلقة باستدراج الأطفال من طرف البيدوفيليين.
خامسا: مشروع القانون رقم 22.00 وعلى غرار القوانين المرتبطة
بتقنية المعلومات الحديثة، خصص الفصل الأول لمجموعة من التعريفات (شبكات التواصل
الاجتماعي-شبكات البث المفتوح-البيانات-المحتوى الإلكتروني-الهوية الرقمية)، وهي
تعاريف وضعت بشكل حصري لا يسمح بإضافة أنواع أخرى، وأغفل تعريف "مزودي
الخدمات" رغم ذكرهم 16 مرة في مشروع القانون، هذا فضلا عن عدم تبيانه المقصود
ب "المواد الإباحية".
سادسا: من المستجدات التي حملها مشروع القانون رقم 22.20
تجريمه الصريح للإبتزاز الجنسي الإلكتروني (المادة 21)، وكما هو معلوم فإن هذا
الصنف من الجرائم يندرج في خانة الأفعال التي تمس بالشرف والاعتبار، أو الجرائم
التي تنتهك الحق في الحياة الخاصة للأشخاص والتشهير بهم في الفضاء الرقمي على غرار
جريمة التحرش الالكتروني ونشر صور وأقوال الأفراد من دون موافقتهم، وهي جرائم تصدى
لها المشرع المغربي من خلال القانون رقم 103.13 المتعلق بمكافحة العنف ضد النساء.
كل هذا يدعونا للتساؤل عن الغرض من التأخر في التجريم الصريح لهذه الجريمة
وإدراجها بهذا المشروع، مما يشكل شرخا في تنظيم وتقنين مقتضيات النص الجنائي، على
اعتبار أن التوحيد الجنائي consolidation
pénale يجنب توزيع الموضوع الواحد على أكثر من
قانون.
سابعا: تخويل صلاحيات واسعة لمزودي الخدمات تمنحهم سلطة التحقق
من عدم مشروعية محتوى معين وحذفه أو توقيفه أو تعطيل الوصول إليه، وهو ما يفتح
الباب أمام المزودين لإعمال سلطات واسعة تدخل في صلب اهتمام القضاء أساسا (الفقرة
2 من المادة 8). كما أن نفس المادة تطرح إشكالية ممارسة السلطات التقديرية الواسعة
للإدارة والتي قد تكون متسمة بالتعسف والشطط، وذلك من خلال الحث على الاستجابة
الفورية لكل طلب تقدمت به الإدارة أو الهيئة المعينة يرمي حذف أو حظر أو توقيف أي
محتوى إلكتروني غير مشروع.
ثامنا: من معايير جودة الصياغة التشريعية، أن يكون التشريع
سبيلا لتحقيق الأمن القضائي، مما يتيح ضبط مجال السلطة التقديرية المخولة للقضاء
من جهة، ومن جهة أخرى الحرص على عدم الإضرار بالحقوق والحريات 7. أما وأن يجد
القاضي نفسه أمام مجموعة من النصوص تعاقب على نفس الفعل بعقوبات مختلفة، مما يطرح
إشكالية التضخم التشريعي، وهو الأمر الذي لطالما انتقده الفقه الجنائي بالنظر إلى
تأثيره على توجه العمل القضائي. هذا الإشكال يكرسه مشروع القانون رقم 22.20 من
خلال المواد التي تعاقب على نشر الأخبار الزائفة، إذ أن نفس الفعل مجرم طبقا
لمقتضيات المادة 72 من القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر.
تاسعا: تنص الفقرة الأولى من الفصل 6 من الدستور المغربي على
أن:" القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين
واعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال
له". هذه الفقرة تكرس لمبدأ المساواة أمام القانون، في حين نجد أن مشروع
القانون رقم 22.00 يؤسس لنقيض هذا المبدأ من خلال سن عقوبات حبسية تصل إلى خمس
سنوات طبقا لما هو مضمن بالمادة 17 من المشروع، هذا في الوقت الذي اكتفت فيه
المادة 72 من قانون الصحافة والنشر بعقوبة الغرامة المالية دون العقوبة الحبسية. حيث
أن اقرار قانونين بعقوبتين مختلفتين لأفعال جرمية واحدة على أساس الانتماء إلى
الجسم الصحفي من عدمه يكرس خرقا واضحا لمقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 6 من
الدستور المغربي.
عاشرا: في الوقت الذي اتجهت السياسات الجنائية المقارنة إلى
تكريس البعد الإنساني في القوانين العقابية من خلال الاستغناء عن وسائل القهر
العام ومقاربة الزجر والإيلام، نجد أن مشروع القانون رقم 22.20 تبنى مقاربة عقابية
قوامها الردع والزجر، وهو منظور أصبح متجاوزا اليوم، فمن غير المقبول اليوم أن
يعاقب الإنسان على الكلمة كيفما كانت حدتها بعقوبات جنحية تصل إلى خمس سنوات، مما
سيشكل بدون شك نكوصا وتراجعا عن التقالييد الدستورية التي تم التأسيس لها ما بعد
دستور 2011.
هوامش ومراجع:
1-
نعمان محمد جمعة، "دروس في المدخل
للعلوم القانونية"، طبعة 1980، ص 13، أورده ادريس فاخوري، "تطور
القانون: الأسباب والوسائل"، مجلة المرافعة، عدد 11، سنة 2000، ص 60.
2-
مولاي عبد الرحمان قاسمي، "قواعد في
صياغة النص الجنائي كمدخل للإصلاح"، المجلة الدولية للأبحاث الجنائية
والحكامة الأمنية، العدد الثالث، 2020، دار الآفاق المغربية للنشر والتوزيع، الدار
البيضاء، ص 478.
3-
هشام العزوزي الإدريسي، "مبدأ الشرعية
الجنائية والتكنولوجيا الجديدة"، المجلة الدولية للأبحاث الجنائية والحكامة
الأمنية، العدد الثالث، 2020، دار الآفاق المغربية للنشر والتوزيع، الدار البيضاء،
ص 285.
4-
تجدر الإشارة إلى
أنه قبل صدور القوانين ذات الارتباط بجرائم تقنية المعلومات، تمخض عن النقاشات الفقهية
تصورات واقتراحات متعددة، نحصرها في ثلاث آراء: حيث ذهب الرأي الأول إلى أنه يمكن مقاربة
موضوع جرائم التقنية الحديثة عن طريق تأويل القواعد العامة، في حين اعتبر الرأي الثاني
أن القانون الجنائي المغربي متجاوز لأنه لا يتلاءم وتقدم تكنولوجيا المعلوميات كظاهرة
مستجدة من جهة، وشرعية التجريم والعقاب كمبدأ من جهة أخرى. أما الرأي الثالث فقد اعتبر
أن الأفعال الإجرامية المرتبطة بالمعلوميات لا تستوجب نصوصا خاصة تجريمية وعلى القضاء
في إطار سلطته التقديرية تأويل النصوص القانونية العامة شريطة إلمامه بالمبادئ الأساسية
في مجال المعلوميات. خالد عثماني، "مكافحة الجريمة الإلكترونية في ضوء التشريع
المغربي"، مجلة العلوم الجنائية، العدد الأول 2014، مكتبة الرشاد سطات، ص 38.
الأقسام:
مقالات